هذه الأحاديث تبين لنا سنة عظيمة وهي سنة السواك، والنبي صلى الله عليه وسلم ما ترك شاردة ولا واردة إلا نصح الأمة بها، فيبين لهم الفرائض، ثم يبين لهم السنن والمستحبات، فبين النبي صلى الله عليه وسلم كيف يكون الارتقاء بالأمة، فالسنن المستحبات تكون بعد الفرائض؛ ليرتقي المرء من درجة المحبة إلى درجة المحبوبية، إذ إن درجة المحبة مرتبة يشترك فيها أهل الإسلام، وأما درجة المحبوبية يشترك فيها أهل الإيمان وأهل الإحسان.
فمراتب الدين ثلاث: المرتبة الأولى: الإسلام، وهؤلاء الذين قاموا بالفرائض واجتنبوا النواهي، ويجمع ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم القدسي في الصحيحين أنه قال: (قال الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بأحب إلي مما افترضته عليه).
ثم قال بعد ذلك: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإن أحببته)، وهذه درجة المحبوبية، (كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها)، رعاية وكلاءة من الله لهذا العبد الذي ارتقى إلى درجة المحبوبية.
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يبين أن مراتب العلو عند الله تكون بكثرة النوافل، وقد بينت أكثر من مرة أن مولى من موالي رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قدم الماء للرسول فتوضأ منها وقال له: (سلني ما شئت؟ قال: أسألك مرافقتك في الجنة)، سأله الفردوس الأعلى، فقال: (أعنّي على نفسك بكثرة السجود).
وكثرة السجود أي: النوافل، ولذلك دخل أبو ذر مسجداً فصلى كثيراً، ثم سلم فقال رجل لآخر: أرأيت هذا الرجل؟ دخل فصلى فسلم ولا يدري أسلم على وتر أم على شفع؟! فلما سمع أبو ذر هذا الكلام قال: سمعت خليلي يقول: (من سجد لله سجدة رفعه الله بها درجة وحط عنه بها خطيئة).
ولذلك ورد بأسانيد وإن كان فيها كلام أن أحمد بن حنبل كان له من النوافل ثلاثمائه في اليوم والليلة، فالنوافل تعلو بالمرء إلى المراتب العلى عند الله جل في علاه.
ومن يقوم بالفريضة لا بد أن يدخلها النقص، فسن الرسول لنا النوافل والسنن التي تحفظ لك الفرائض؛ لأن الجوهرة إذا كانت عارية عن الحفظ سرقت بسهولة، لكن إذا كانت هذه الجوهرة في مكان أمين، ومحاطة بسور، لا يستطاع الوصول إليها.
فالنوافل التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم تسد الخلل الذي يدخل منه الشيطان، فمن هذه السنن التي علمنا النبي صلى الله عليه وسلم إياها السواك، وهي سنة أميتت، ولا أدري لماذا يتقاعس عنها الناس مع أن بعض الفقهاء أوجبوا السواك، ومنهم من أبطل الصلاة بدون التسوك! وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أحرص الناس عليها؛ ولذلك تأسى أصحاب رسول الله برسول الله بهذه السنة العظيمة كما في سنن أبي داود بسند صحيح أن زيد بن خالد الجهني كان يكون السواك على أذنه كموضع القلم من أذن الكاتب، فالكاتب الذي يكتب على الكاغد في عصر النبي صلى الله عليه وسلم كان يضع القلم على الأذن.