انظر إلى يوسف عليه السلام، كيف لطف الله به، فقد كان في حنان أبيه وشفقة أمه، وبعدما ماتت أمه فقد الحنان، فكان أبوه يكتنفه من جميع جوانبه، لكن الحقد والحسد لعب برءوس إخوته، حتى قال له أبوه كما ورد ذلك في كتاب الله تعالى: {لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف:5]، أي: حقداً وحسداً، وقد كان، فقد أخذوه من عند أبيه الحنون، ثم أهانوه بالشتم والجر والضرب، ثم ألقوه في غيابة الجب.
انظر أخي الكري! م وتدبر في اللطيف الذي لطف بيوسف وهو في غيابة الجب، في ظلمات الجب، قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [يوسف:15]، انظروا إلى ألطاف الله، هذا الطفل الصغير ألقي في غيابة الجب، وأخفى الله له النصر والرفعة والتمكين في هذه الظلمة، وفي ظلمات السجن، فإنه بعدما جاء السفهاء البله، ووجدوه في الجب أخذوه وباعوه بثمن بخس دراهم معدودة، قال عزيز مصر بعدما تفرس به: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [يوسف:21]، لقد لطف الله جل في علاه بهذا الشاب الصغير، فإنه بعدما تربى في بيت العزيز مكن الله له، وأخفى له في ظل الرق عز التمكين، ثم راودته امرأة العزيز عن نفسها، ثم دخل السجن ظلماً وعدواناً وبهتاناً وزوراً، فالله أخفى له التمكين على مصر بأسرها وهو في ظلمات السجن، وذلك عندما رأى الرجلان اللذان كانا معه في السجن الرؤيا، فعبرها لهم، ثم إن الله جل في علاه جعل له سبباً آخر للتمكين أخفاه، وهو في السجن لطف منه جل في علاه، وهذا السبب: هو أن الملك رأى رؤيا فأراد أن يعبرها، فلم يعبرها له أحد مثلما عبرها يوسف عليه السلام، فقال له الملك كما جاء في كتاب الله تعالى: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف:54].
فانظر أخي المسلم الكريم! كيف أن اللطيف يخفي الأشياء في أضدادها، فمن يصدق أن الذي في السجن سيخرج ويصبح ملكاً على هذه الأرض، يتحكم في رقاب الناس، وفي أقواتهم بمشيئة الله جل في علاه، وهناك ما هو أبعد من هذا، فبعدما اطمأن إخوته أنهم قد ألقوه في غيابة الجب في هذه الظلمات أنبأه الله بأنه سيرتقي عليهم رغم هذا الظنك الشديد، وهذا الكرب العظيم، وأنه سيعفو عنهم، وقد حدث هذا الوعد عندما دخلوا عليه بعدما أخذ أخاه بحيلة كادها له الله جل في علاه، قال تعالى: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} [يوسف:88] ماذا قال لهم؟ {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:89 - 90] أعلنها صراحة: أنا يوسف، ظلمت منكم واشتد علي الكرب، لكن ألطاف الله أسرعت نحوي، فبفضل الله ولطفه ورحمته قد أصبحت ملكاً عليكم، ثم قال لهم كما جاء في كتاب الله تعالى: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:92]، فانظر إلى لطف الله جل وعلا بيوسف عليه السلام، فبعدما اشتد عليه الكرب، وبعدما ألقي في غيابة الجب، وبعدما ظلم وسجن، مكن الله جل وعلا له في الأرض.
وهذه الأمة منصورة -ورب السماوات- إن تدبرت هذا الاسم، ثم عاشته واقعاً في حياتها، فإن الله سيخفي لها النصر في باطن الهزيمة، وسيجعل لها اليسر في جوف العسر، إنه لطيف بعباده سبحانه جل في علاه.