وبعد حياة حافلة حفيلة بالعلم، والعمل، والدعوة، والزهادة، والإخلاص، والإنابة، والتوكل على الله تبارك، وتعالى أثمر فيها في كل الميادين، وانتصر في كل فتح من الفتوح على كافة الأصعدة، آن لهذا البدن المعنى أن يغادر الحياة، ولتلك الروح الغريبة عن عصرها أن تلحق بربها تبارك وتعالى، فمرض شيخ الإسلام رضي الله تعالى عنه كما يقول ابن فضل الله العمري، وكان قبل موته قد منع الدواة والقلم، وطبع على قلبه منه طابع الألم، فكان ذلك مبدأ مرضه ومنشأ عرضه، حتى نزل قفار المقابر، وترك فقار المنابر، وحل ساحة ربه وما يحاذر، وأخذ راحة قلبه من اللائم والعاذر، وكانت مدة مرضه بضعة وعشرين يوماً، وأكثر الناس ما علموا بمرضه واستمر به الحال حتى وافاه الأجل.
يقول عامة المؤرخين: توفي رحمه الله في العشرين من شهر ذي القعدة عام ثمانية وعشرين وسبعمائة هجرية، وقد اتفق موته في سحر ليلة الإثنين، فذكر ذلك مؤذن القلعة على المنارة، وتكلم بها الحراس، فما أصبح الناس إلا وقد تسامعوا بهذا الخطب الجسيم، فبادر الناس إلى الاجتماع حول القلعة من كل مكان أمكنهم المجيء منه، حتى من الغوطة والمرج، وفتح باب القلعة لمن يدخل من الخواص والأصحاب والأحباب، واجتمع حشد عظيم من الخاصة والعامة، وبدأ الناس يختمون القرآن قبل غسله، وأذن للنساء بعد الرجال فزرنه، ولم يبق عند الغسل إلا من كان عليه أن يغسله، واجتمع الناس بالقلعة والطريق إلى جامع دمشق، وامتلأ الجامع وصحنه وباب البريد وباب الساعاد.
ثم شرعوا في غسل الشيخ، وكان الذي تولى غسله هو الإمام الحافظ المزي رحمه الله تبارك وتعالى، وصلي عليه مرات، وحملت جنازته إلى المسجد الأموي، واجتمعت البلدة على بكرة أبيها، ولم يعرف أن عدداً خرج في جنازة إلا في جنازة الإمام أحمد ما يوافي ما خرج في جنازة ابن تيمية رحمه الله تعالى ورضي عنه، حتى حصروهم بثلاثمائة ألف من الرجال غير الذين جاءوا إلى قبره للصلاة، وأعلن بالصلاة عليه، واجتمع الناس، وضجت الأسواق بالنحيب والبكاء والترحم والثناء والدعاء، وألقى الناس على نعشه مناديلهم وعمائمهم، وسقطت المناديل والعمائم عن رءوس الناس والناس لا يلتفتون إلى ذلك، وعظم الأمر بسوق الخيل، وتضاعف الخلق، وكثر الناس، ووضعت الجنازة هناك، وتقدم للصلاة عليه أخوه زين الدين وحمل إلى المقبرة، حيث دفن إلى جانب أخيه شرف الدين عبد الله، ولم يتخلف عن الحضور إلا من هو عاجز عن الحضور، وحصر الرجال الذين حضروا الجنازة ما بين ستين إلى مائتي ألف عدا النساء، ويقدر الحاضرات من النساء بخمسة عشر ألف امرأة عدا من كنّ على الأسطحة والغرف، ولم يعهد مثل هذا الزحام في تاريخ دمشق! قال الإمام البرزالي: ولا يمكن أحد حصر من حضر من الجنازة، وتقريب ذلك أنه عبارة عمن أمكنه الحضور من أهل البلد، يقول ابن رجب: وصلي عليه صلاة الغائب في غالب بلاد الإسلام القريبة والبعيدة حتى في اليمن والصين، وأخبر المسافرون أنه نودي بأقصى الصين للصلاة عليه يوم الجمعة، الصلاة على ترجمان القرآن، قال البزار: وما وصل خبر موته إلى بلد إلا وصلي عليه في جميع جوامعه، خصوصاً أرض مصر والشام والعراق وتبريز والبصرة وغيرها، ولم يُر لجنازة ما رؤي لجنازته من الوقار والهيبة، وخرج بعض تلامذته لما رأى ذلك متأثراً فصاح في وسط الناس: هكذا تكون جنائز أئمة السنة، فضجّ الناس بالبكاء والعويل! وحق لهم أن يبكوا على الشمس التي رحلت في رابعة النهار مرتحلاً إلى ربه تبارك وتعالى بعد أن شق طريقاً للسنة، وأسس أساساً للمنهج السلفي، وأرسى دعائمه، وبنى قوائمه، وناظر المبتدعة فرماهم بسهام السنة فأصماهم في سويداء قلوبهم رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ومصداق جنازته في تنبؤ الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه يوم قال: قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم الجنائز، قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم الجنائز، فاللهم ارض عن صاحب هذه الروح، وافسح له أبواب الجنة، فهي آخر ما كان يرجوه من الفتوح.
هذه إضاءات على صفحات مشرقة لإمام من أئمة الدعوة السلفية، ومؤسس المدرسة السلفية المعاصرة في القرون المتأخرة، وحامي ومجدد علوم السلف رضي الله تعالى عنه وأرضاه، تلك هي الصناعة الإسلامية، وبقية الخير في هذه الأمة لا تنزع عنها إلى قيام الساعة، ومصداق ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال).
فنحن بحاجة في هذه الأزمنة التي تباعد فيها الناس عن السنة، والتي غلبت فيها الأهواء والشحناء والأحقاد والمنازعات؛ بحاجة إلى الرجوع إلى مثل هذه التراجم للنظر في سير الأئمة الأعلام، أئمة الدعوة السلفية المباركة، الذين حملوها في قلوبهم، فرفعتهم في قلوب الناس، رضي الله تعالى عنهم جميعاً وأرضاهم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وسبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.