القول بالمنع مطلقاً، وأدلة ذلك

فالذين قالوا بالمنع مطلقاً هم الجمهور: الشافعية والحنابلة والأحناف، فيحرم على المرأة الحائض قراءة القرآن، وتأثم إن قرأت القرآن، فإذا علمت الحق وأصرت عليه كان من الكبائر، وإن لم تعلم فهي من الصغائر، والله تعالى أعلى وأعلم.

واستدلوا على ذلك بأدلة: الدليل الأول: حديث ابن عمر في السنن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقرأ الجنب ولا الحائض القرآن).

وهذا الحديث قد جاء أيضاً من طريق آخر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه في منع الحائض من قراءة القرآن، وجاء من طريق أنس أيضاً، والروايات كلها ضعيفة كما سأبين.

الدليل الثاني: حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن على كل أحواله سوى الجنابة).

والحائض عند العلماء تلحق بالجنب، وهي أشد منه وأولى منه.

الدليل الثالث: جاء في سنن البيهقي بسند صحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه قال: لا يقرأ الجنب ولا الحائض القرآن.

الدليل الرابع: عن علي بن أبي طالب بسند صحيح أنه قال: لا يقرأ الجنب القرآن -والحائض يلحق بالجنب- قالوا: يا أمير المؤمنين! ولا حرفاً واحداً؟ قال: ولا حرفاً واحداً.

وهذا فيه جزم بالتحريم وتصريح به.

الدليل الخامس: عن عائشة بنت الصديق رضي الله عنه وأرضاها كما في صحيح البخاري قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن في حجري وأنا حائض).

ووجه الدلالة من هذا الحديث: أن عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: (يقرأ القرآن في حجري) وصفتي أني حائض (وكنت أعلم) كما فهمت من رسول الله أن الحائض لا تقرأ القرآن، فكيف يقرأ القرآن في حجري؟! فكأن النبي بلسان حاله يعلمها أن المرأة الحائض لا تقرأ القرآن لحيضها، أما القارئ الذي لا تمسه جنابة ولا حيض فإن له أن يقرأ القرآن، ولا يؤثر فيه إن كانت هذه القراءة بجانب الحائض، بل لو كانت في حجر الحائض فيجوز له ذلك؛ لأن المنع بوصف الحيض، والحيض وصف لا يتصف به إلا النساء.

الدليل السادس: جاء في سنن أبي داود بسند صحيح: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ فمر عليه رجل فقال: السلام عليك يا رسول الله! فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم السلام، ثم ضرب بيده الحائط فتيمم ثم رد عليه السلام، ثم قال: كرهت أن أذكر الله إلا على طهر).

هذا الحديث لا يساعدهم في التحريم، لكن يساعدهم في الكراهة فلفظة: (كرهت) لا تدل على التحريم، وإن كان بعض العلماء يقول: إنها أصل في التحريم، والصحيح والراجح: أنها ليست دلالة بالتصريح على التحريم، لكن يستأنس به.

الدليل السابع: قياساً على فعل النبي صلى الله عليه وسلم كما في مسند أحمد بسند صحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبول -أي: متلبس بالنجاسة- فمر عليه رجل، فقال: يا رسول الله! السلام عليك ورحمة الله، أو قال: السلام عليك يا رسول الله! فلم يرد عليه، فلما قضى حاجته ذهب إليه فقال له: إذا وجدتني على هذه الحال فلا تسلم علي، فإن فعلت فلن أرد عليك).

فهنا محرمان: المحرم الأول: ألا يرد.

المحرم الثاني: أن يرد وهو متلبس بالنجاسة، فدفع النبي صلى الله عليه وسلم الكبرى بارتكاب الصغرى، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول بفعله: إن رد السلام وأنا متلبس بالنجاسة كبيرة، وأصغر منه أن أمتنع عن رد السلام، فأفعل الأصغر وأدفع به الفعل الأكبر، فيكون وجه الدلالة هنا: قياس الأولى وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط واجباً؛ لأنه كان متلبساً بالنجاسة.

الدليل الثامن: اتفق المجيزون والمانعون على حرمة مس المصحف لغير الطاهر، واستدلوا بحديث مرسل لكنه صحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يمس القرآن إلا طاهر) فقالوا: اتفقنا نحن وأنتم على حرمة مس المصحف، وأيهما أغلظ حرمة مس المصحف أم قراءة كلام الله الذي تكلم به وسمعه جبريل ونزل به إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟

صلى الله عليه وسلم القراءة أغلظ، فكيف تمنعون الأدنى وتجيزون الأغلظ؟! فهذا مخالف لكل القواعد والتأصيلات العامة، ومخالف للتقعيد الفقهي.

وهذا قياس الأولى، فإذا قلنا بالمنع من مس المصحف فمن باب أولى أن نمنع قراءة القرآن.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015