قال: (الموضع التاسع: السؤال عما شجر بين السلف الصالح).
أي: الخلاف الذي كان بين الصحابة رضي الله عنهم.
فمن المكروه والمذموم أن يخوض الإنسان فيما كان بينهم من الخلاف، وقد سئل عمر بن عبد العزيز عن قتال أهل صفين فقال: (تلك دماء عصم الله منها سيوفنا فلنعصم منها ألسنتنا).
وقال آخر وقد سئل عن ذلك في مناسبة أخرى مماثلة: (قال تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134]).
فالمقصود عدم الخوض حتى لو كان بعض الصحابة مخطئين في ذلك؛ لأن شأننا نحن مع هؤلاء السادة الأطهار الأبرار هو ما ذكره الله سبحانه وتعالى في سورة الحشر: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر:10] يبين الله عز وجل الذين يستحقون أن يوزع عليهم مال الفيء، وهو المال الذي يتركه المشركون ويهربون إذا رأوا المسلمين من بعيد، أما الغنيمة فهي ما يؤخذ مغالبة عن طريق القتال.
فيقول عز وجل في معرض توزيع مال الفيء لمستحقيه: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8] وهؤلاء هم المهاجرون.
ثم قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9]، وهؤلاء هم الأنصار.
ثم قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10].
ولذلك استنبط الإمام مالك من هذه الآية أن الشيعة الرافضة -قبحهم الله- لا يستحقون شيئاً من مال الفيء؛ لأنهم ليسوا من الطوائف التي ذكرها الله الذين يستحقون مال الفيء، وهم المهاجرون، والأنصار، ومن جاء بعدهم وكان محباً ومستغفراً للمهاجرين والأنصار، فما بالك بمن يلعن المهاجرين والأنصار والعياذ بالله؟! ما بالك بهؤلاء المجرمين الشيعة الذين يكفرون الصحابة ما عدا خمسة أو ثلاثة؟! فهل لهم حظ؟ لا.
فإن هؤلاء قد غاظهم أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، حتى إن الإمام مالك أخذ تكفيرهم من قوله تعالى: {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29]، وقال: كل من وجد في قلبه غيظاً على أصحاب الرسول عليه السلام فهو كافر لهذه الآية.
وموضوع تكفيرهم له تفصيل، لكن الشاهد من الكلام قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر:10] وهي تعني كل مؤمن إلى يوم القيامة.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] فمن وجد في قلبه غلاً للذين آمنوا وثبت -ومعلوم أن المؤمنين منهم الصحابة، فهم أفضل أمة، وخير أمة أخرجت للناس- فلا يستحق أن يأخذ من مال الفيء.
إذاً نحن نستغفر لهم فيما اجتهدوا فيه وأخطئوا، ونعتقد أن ما حصل من الصحابة من القتال في موقعه الجمل وصفين إنما هو عن اجتهاد خالص لله عز وجل، يريدون به إحقاق الحق، ولكن هذا أمر قدره الله وقضاه ووقع، وليس لنا أن نخوض في هذا الأمر بالوقوع في أحد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذه المسألة من شدة أهميتها أصبح كل علماء السلف -تقريباً- يختمون بها عقائدهم ومتون العقيدة بأننا يجب أن نمسك عما شجر بين صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونترضى عنهم، إلى آخر النصوص المعروفة سواء في الطحاوية أو غيرها، فهم يدرجون هذه القضية في قضايا أصول العقيدة وأصول الإيمان، أي: الترضي عن الصحابة، والإمساك عما شجر بينهم وعدم الخوض فيه، فمن سأل سؤالاً من هذا الباب فقد وقع فيما نُهينا عنه من كثرة السؤال كما بينا.