قال: (الموضع الثامن: السؤال عن المتشابهات).
وعلى ذلك يدل قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران:7]، وفي الحديث: (متى رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم)، هؤلاء هم الذين حذرنا الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم منهم، الذين يتتبعون المتشابهات، ولعلنا نجد صورة واضحة جداً في العلمانيين والملاحدة من الكفار، هؤلاء الناس هذه مهنتهم وهذه حرفتهم، فهم يتقنون صناعة الشبهات والخوض في الأمور المشتبهة، وعدم رد المتشابه إلى المحكم، فالتمسك بالمتشابه والإعراض عن المحكم مما ينبئ عن وجود هذا المرض والزيغ في القلب، والعياذ بالله عز وجل.
وقد روى يحيى بن يحيى التميمي، وجعفر بن عبد الله وطائفة قالوا: جاء رجل إلى مالك فقال: يا أبا عبد الله! {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] كيف استوى؟ قال: فما رأيت مالكاً وجد في شيء كما وجد فيه من مقالته.
يعني: ما رأى الإمام مالك غضب من أحد كما غضب من مقالة هذا الرجل.
قال: وعلاه الرحضاء -من شدة غضب الإمام مالك احمر وجهه، والعرق ظل يتصبب من وجهه وجبينه -وأطرق ثم قال: (الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وإني أخاف أن تكون ضالاً) وأمر به فأخرج.
فحملوه وطردوه خارج المسجد.
وهنا ملاحظة، وهي أن بعض الإخوة يريد أن يسلك مسلك شيخ الإسلام ابن تيمية في الخوض في أمور هي من علم الكلام وما أشبهه نتيجة الولع الشديد بمحبة شيخ الإسلام ابن تيمية ودوره التجديدي في الدفاع عن المنهج السلفي، ولأنه أنفق جزءاً كبيراً من عمره في المنافحة عن أهل السنة والجماعة والرد على أهل البدع، والظروف التي وجد فيها شيخ الإسلام اقتضت كثيراً من التفاصيل، حتى إنه لجأ أحياناً إلى مجادلتهم بنفس أسلحتهم سواء في المنطق أو علم الكلام أو غيره، وهذه حالة خاصة بـ شيخ الإسلام، ولا يطلب من كل مسلم أو طالب علم أن يخوض هذا الخوض في هذه الأمور.
وقد رزقنا الله سبحانه وتعالى السلامة من الشبهات في هذا الباب، فلا تعتبر أنك قصرت في دراسة التوحيد إن لم تخض مثل هذا الخوض، فما دمت في عافية لا تخض في هذه المسائل، إنما شيخ الإسلام وأمثاله من العلماء المجاهدين في سبيل الدفاع عن المنهج السلفي وعقيدة أهل السنة والجماعة لهم وضع خاص، كالشخص الذي يرد على النصارى، وهل نطالب كل المسلمين أن يخوضوا في مثل هذا بهذه التفاصيل؟ هذه تعتبر من الفروض الكفائية، لكن مادمت في عافية من الخوض والتعمق في هذه التفاصيل فهذا أحد الملامح الأساسية للمنهج السلفي، أما شيخ الإسلام فلأنه كان في مرحلة تجديد ودفاع، والبيئة الثقافية أو العلمية في مجتمعهم كانت تحمل هذه الأمراض التي غلبت عليه اضطر إلى مواجهة الأشاعرة والصوفية والفلاسفة والمتكلمين والمناطقة بنفس أسلوبهم، وهذا لا يعني أننا ننتهج نفس الأسلوب إلا إن احتجنا إليه في ظروف مشابهة.
وساق البيهقي بإسناد صحيح عن أبي الربيع الرشديني، عن ابن وهب قال: (كنت عند مالك فدخل رجل فقال: يا أبا عبد الله! {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، كيف استوى؟ فأطرق مالك وأخذته الرحضاء، ثم رفع رأسه وقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] كما وصف نفسه، ولا يقال: كيف؟ وكيف عنه مرفوع، وأنت صاحب بدعة.
أخرجوه)، لماذا؟ لأن الله سبحانه لا يقال له: كيف.
فـ (كيف) تقال لشيء أنت رأيته من قبل وتصورته، فإذا ذكر أمامك ستتخيله في ذهنك، وسوف تستطيع أن تتصوره، فمن رأى الله سبحانه وتعالى حتى يكيفه؟ والعقل لا يستطيع أن يقيس أو أن يكيف الله، وإذا كنا نعجز بعقولنا عن تكييف مخلوقات الجنة فكيف بالله عز وجل؟ فمن يستطيع أن يكيف الجنة ويعرف قصتها؟ كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) فمهما اجتهدت أن تتخيل في وصف الجنة فلن تصل إلى الحقيقة؛ فهي أعظم مما تتخيل، فإذا كان هذا مخلوقاً ونحن لا نقوى على تكييفه فكيف بالله جل وعلا؟ ويحكى أن شاباً كان يخوض في هذا الباب، ويقع في مثل تلك الهفوات -والعياذ بالله-، فسأله بعض العلماء عن حديث جبريل الذي فيه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ورأيت جبريل له ستمائة جناح يسد ما بين المشرق والمغرب) فقال له: أخبرني عن خلق من مخلوقات الله له ستمائة جناح كيف تتخيلها وكيف صورتها؟ فعجز.
فقال: فأنا أضع عنك منها سبعةً وتسعين وخمسمائة فيكون الباقي ثلاثة، فصف لي خلقاً من خلق الله تعالى له ثلاثة أجنحة؟ فعجز، وقال: يا فلان! قد عجزنا عن صفة المخلوق فنحن عن صفة الخالق أعجز.
هذه هي الحقيقة، لا يعلم كيف الله إلا الله {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110] بينما هو أحاط بكل شيء علماً.