قال: (الموضع العاشر: سؤال التعنت والإفحام، وطلب الغلبة في الخصام).
وفي القرآن في ذم نحو هذا قوله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204]، (ألد الخصام) أي: مجادل.
ومنه قوله تبارك وتعالى: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:58] وهو الجدل، كما في قوله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121].
ومناسبة هذا أنهم قالوا: هل ما قتله الله حرام وما قتلتموه أنتم أو ما ذبحتموه أنتم يكون حلالاً؟ انظر إلى التلبيس وإيقاع الشبهات في قلوب المؤمنين! فنزل قوله وتعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121].
فهذا من الجدل القبيح والمذموم، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم) (الألد الخصم) الشخص الشديد الجدل والشديد الخصومة والتعنت، فهذه جملة من المواضع التي يكره السؤال فيها، ويقاس عليها ما سواها.
وأعيد التذكير برءوس هذه المواضع العشرة، وهي المواضع التي يكره فيها
Q الأول: السؤال عما لا ينفع في الدين، ومثاله قول عبد الله بن حذافة: من أبي؟ وكذلك سؤالهم: ما بال الهلال يبدوا رقيقاً؟ الذي نزل فيه قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ} [البقرة:189].
الموضع الثاني: أن يسأل بعدما بلغ من العلم حاجته، ومثاله سؤال الرجل عن الحج: أكل عام؟ وكذلك سؤال بني إسرائيل عن صفات البقرة.
الموضع الثالث: السؤال من غير احتياج إليه في الوقت، ويدل عليه قوله: (ذروني ما تركتكم)، وقوله: (وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان).
الموضع الرابع: أن يسأل عن صعاب المسائل وشرارها، كالأغلوطات التي ورد النبي عنها.
الموضع الخامس: أن يسأل عن علة الحكم، وهو من قبيل التعبدات، أو يكون السائل ممن لا يليق به السؤال، كما قالت عائشة للمرأة: (أحرورية أنت؟) لما سألت عن قضاء الحائض الصوم دون الصلاة.
الموضع السادس: أن يبلغ بالسؤال إلى حد التكلف والتعمق، وقد قال تعالى: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86]، كذلك سؤال صاحب الحوض عن طهارته.
الموضع السابع: أن يظهر من السؤال معارضة الكتاب والسنة في الرأي.
الموضع الثامن: السؤال عن المتشابهات.
الموضع التاسع: السؤال عما شجر بين السلف الصالح.
الموضع العاشر: سؤال التعنت والإفحام، وطلب الغلبة في الخصام.
فهذه جملة من المواضع التي يكره فيها السؤال، ويقاس عليها ما سواها، وليس النهي فيها على درجة واحدة، بل منها ما تشتد كراهيته، ومنها ما يخف، ومنها ما يحرم، ومنها يكون محل اجتهاد، وعلى جملة منها ما يقع النهي عن الجدال في الدين، كما جاء في الحديث: (إن المراء في القرآن كفر) أي: أن يأتي الناس ويضربون الآيات بعضها ببعض.
وهذا أوضح ما يكون في مسائل القدر، فهذا يأتي بالآيات التي تدل على في مذهبه الضال إذا كان جبريا، والآخر يأتي بآية تعارضه إذا كان قدرياً، ويضرب القرآن بعضه ببعض.
وقد قال عز وجل: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام:68]، فالسؤال في مثل ذلك منهي عنه، والجواب بحسبه.
وبعض المفسرين قالوا: لابد من تقييد النهي في هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101].
فقالوا: إلا لما تدعوا إليه الحاجة؛ لأن الأمر الذي تدعوا إليه الحاجة هو من أمور الدين، وقد أذن الله بالسؤال عنه فقال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور الذي رواه جابر رضي الله عنه فقال: (خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجرٌ فشجه في رأسه، ثم احتلم فسأل أصحابه، فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء.
فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك، فقال: قتلوه قتلهم الله! ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده).
قالوا: إنه لابد من تقييد الآية بـ: (لا تسألوا إلا عن الأشياء التي أنتم محتاجون إليها في الدين) وهذا القيد لا داعي لتقديره؛ لأن هناك في الآية قيداً يفيد ذلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101] فمعناها: لكم أن تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تفيدكم وتنفعكم في دينكم.
فمن مفهوم الآية نستغني عن افتراض مثل هذا القيد، فيقال: أما إذا كنتم تسألوا عن أشياء تفيدكم في دينكم ولابد لها من أمر الدين كما يسأل السائل الذي يبحث عن الحق فلا حرج في ذلك.
فما تدعو إليه الحاجة لا تشمله الآية كما يتضح من نظمها الكريم مع ما قيدته السنة في سبب النزول؛ لأنه معروف وواضح سبب النزول، سواء أكان في هذا الرجل الذي قال: من أبي؟ أم من قال: أكل عام؟ أم غير ذلك، فيتضح أن النهي إنما هو عن الأشياء التي تشق عليهم من التكاليف الصعبة، أو الأشياء المستورة التي يفتضحون بجوابها، مما القول فيه فضول وشروع فيما لا حاجة إليه وفيه المفسدة، والعاقل مطالب بأن يحترز عما ينتج عنه مفسدة.
فتحرج الصحابة رضي الله عنهم عن السؤال معلوم أنه فيما لا ضرورة إليه، وإلا فكتب السنة طافحة بالأحاديث التي تدل على أنهم سألوه كثيراً جداً، وسألوه عن الشيء الذي لابد منه في الدين إما من الضروريات وإما من الحاجيات.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يكره فتح باب كثرة المسائل خشية أن تفضي إلى حرج أو مساءة أو تعنت، روى الشيخان عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه كتب إلى معاوية رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال).
وروى أحمد وأبو داود: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأغلوطات أو الغلوطات) وهي صعاب المسائل، والآثار في ذلك كثيرة.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.