النوع الثالث من صور الإلحاد في أسماء الله الحسنى: تعطيل الأسماء عن معانيها، وجحد حقائقها، وأنها مجرد أعلام فقط، يعني: أسماء لا معنى وراءها، لا تتضمن المعاني التي اشتقت منها، فهي مجرد أعلام، وعليه يكون الجبار مثل الرحيم مثل العزيز، كلها مجرد أعلام مع جحد معانيها وحقائقها، وهذا مذهب الجهمية وأتباعهم، فيطلقون على الله سبحانه وتعالى اسم السميع والبصير والحي والرحيم والمتكلم والمريد، لكن يقولون: هذه أعلام مجردة لا معنى وراءها، فهم يقولون: سميع بلا سمع! عليم بلا علم! مع أن الله تعالى يقول: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء:166]، فهم يفصلون الأسماء عن المعاني، فالله اسمه السميع بلا سمع، البصير بلا بصر، الحي بلا حياة، الرحيم بلا رحمة، المتكلم أو المريد بلا إرادة ولا كلام، لا تقوم به هذا الصفات، وهذا من أعظم الإلحاد فيها عقلاً وشرعاً ولغة وفطرة، وهو يقابل إلحاد المشركين، فإلحاد المشركين وقع بأنهم خلعوا أسماء الله وصفاته وجعلوها لآلهتهم، أما هؤلاء فقد سلبوه صفات كماله وجحدوها وأبطلوها، فكلاهما ملحد في أسمائه.
ثم الجهمية وطوائفها متفاوتون في هذا الإلحاد، فمنهم الغالي والمتوسط والمنكوب، وكل من جحد شيئاً مما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ألحد في ذلك فليستقل أو ليستكثر، وإذا كان الله سبحانه وتعالى أنكر على المشركين حينما جحدوا اسماً واحداً فقط من أسماء الله، وهو الرحمن، كما قال عز وجل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان:60]، مع أنهم كانوا يعرفون الله باسمه الرحمن، لكنه الجحود والنكران، وقال أيضاً: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد:30]، فإذا كان هذا الإنكار في جحد اسم واحد فقط فكيف بحال الجهمية الذين جحدوا جميع صفات الله وأسمائه؟! نعوذ بالله من الخذلان؛ لذلك فإن العلماء يعتبرون الجهمية النفاة المحضة الذين ينفون كل أسماء الله وصفاته كفاراً أكثر من المشركين في شركهم وفي كفرهم، كما سبق أن تكلمنا في ذلك، وقد بين شيخ الإسلام رحمه الله تعالى سبب ضلال الجهمية وأتباعهم فقال: سبب هذا الضلال أن لفظ التمثيل والتشبيه لفظ فيه إجمال، وهؤلاء أنفسهم وجماهير العقلاء يعلمون أنه ما من شيئين إلا بينهما قدر مشترك، ونفي ذلك القدر المشترك ليس هو نفي التمثيل والتشبيه الذي قام الدليل العقلي والسمعي على نفيه، فالتشبيه الذي قام الدليل على نفيه: ما يستلزم ثبوت شيء من خصائص المخلوقين لله سبحانه وتعالى، إذ هو سبحانه ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، ولهذا اتفق جميع طوائف المسلمين وغيرهم في الرد على هؤلاء الملاحدة، وبيان أنه ليس كل ما اتفق شيئان في شيء من الأشياء يجب أن يكون أحدهما مثلاً للآخر، يعني: حينما يوصف شخص بأنه عالم، وشخص آخر بأنه عالم، وثالث بأنه عالم، لا يقتضي ذلك تساويهم في درجة العلم، بل يتفاوتون؛ فما بالك إذا وصف المخلوق بالعالم ووصف الله سبحانه وتعالى بالعالم؟! لا شك أن علم الله يختلف تماماً عن علم المخلوقين، فالقاعدة: أن تماثل الأسماء لا يقتضي تماثل المسميات، فالعبد عالم والله عالم، لكن هناك فرق كبير هو تمام الفرق بين الخالق والمخلوق في هذه الصفات، كذلك يقال في: كريم حكيم عليم، وغير ذلك من هذه الأسماء.
ولا يجوز أن ينفى عن الخالق سبحانه كل ما تكون فيه موافقة لغيره في معنىً ما، فإنه يلزم منه أن يكون عدماً بالكلية كما فعله هؤلاء الملاحدة، بل يلزم من ذلك نفي وجوده ونفي عدمه، وهو غاية التناقض والإلحاد والكفر والجهل، انتهى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية.
فالجهمية هم نفاة الأسماء والصفات، ويقولون: إنما يسمى بها مجازاً! أو المقصود بها غيره! أو لا يعرف معناه! وأصل تلبيسهم هو: أن إطلاق هذه الأسماء على الله فيه تشبيه له بخلقه، ولذا فيجب نفي الأسماء عنه، هذا هو مبلغهم من العلم والعقل، أو بتعبير أدق من الجهل والغباوة! فإنهم قالوا: إننا لو أثبتنا هذه الأسماء لله سبحانه وتعالى، فمعنى ذلك أننا نشبه الله بخلقه، فإذا قلنا: إن الله هو العليم أو العالم، فمعنى ذلك أن فيها صفة لله، فإذاً: هذا معناه أن الله يشبه خلقه! فلا يتحقق التنزيه في زعمهم إلا بنفيه؛ وكل اسم من أسماء الله هو بلا معنى، فهو عليم بلا علم في زعمهم، وهكذا في باقي الصفات.
وقال الجهم بن صفوان وهو إمام هؤلاء الجهمية الضلال: لا يجوز أن يوصف الباري سبحانه بصفة يوصف بها خلقه؛ لأن ذلك بزعمه يوجب تشبيهه، وهذا هو السبب في أنهم نفوا جميع أسماء الله وصفاته.