إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
خلق الله تبارك وتعالى عباده ليبتليهم ويختبرهم، ومن ألوان الاختبار والابتلاء التي يختبر الله به عباده أن يكون لهم عدو من غيرهم أو من أنفسهم، ثم يقوم الصراع بين الذين انتسبوا إلى الله تبارك وتعالى، وبين الذين انتسبوا إلى أعداء الله الذين تمردوا على إلههم وربهم وسيدهم.
خلق الله آدم بيده وأسجد له ملائكته، ومن اللحظة الأولى التي فتح فيها آدم عينيه وجد عدواً يتربص به، وذلك عندما أمر الله ملائكته أن يسجدوا لآدم عندما ينفخ فيه الروح، {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} [الحجر:30 - 31] واستكبر عن أمر الله، وحسد آدم على ما فضله الله به، وكان قبل ذلك يعبد الله مع ملائكة السماء مكرماً معززاً، فطرده الله تبارك وتعالى من رحمته وجنته، ومنذ أول لحظة قال الله لآدم: ((يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا)) الذي يقف أمامك وتراه {عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:117].
وانتقل الصراع من الجنة إلى ظهر هذه الأرض بعد أن نجح الشيطان في إغواء آدم، حيث زين له أن يعصي ربه، فأهبطه الله تبارك وتعالى من الجنة، وانتقل الصراع بين الشيطان وذرية آدم إلى أن تقوم الساعة.
واتخذ الشيطان من بني آدم جزءاً، وهم فريق كبير ممن اتبعه من بني آدم، (إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف:50]، {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ:20] وفريق قليل هم الذين لم يتبعوا الشيطان، وهم الرسل وأتباعهم.
أما بقية بني آدم من هذه الجموع الهائلة في الشرق والغرب، فالشيطان هو قائدهم، وموجههم، فبعضهم زين لهم أن يعبدوا الأصنام من دون الله فعبدوها، وبعضهم زين لهم أن يعبدوا الشمس والقمر والنجوم فعبدوها، وبعضهم عبدوا الأحجار والأشجار، وبعضهم عبدوا الجبال والبحار، وبعضهم عبدوا أهواءهم وملذاتهم، وبعضهم عبدوا حكامهم من دون الله، وكل ذلك يرضي الشيطان.
فكل من عبد شيئاً من دون الله فقد عبد الشيطان؛ لأنه هو الذي يأمر بذلك ويحبه ويرضاه، وكان عداء الشيطان على مسيرة البشرية عبر تاريخها ينصب على الرسل وأتباعهم، فكان الصراع بين نوح وبين عبدة الأصنام، وبين إبراهيم وعبدة النجوم والكواكب والأصنام والشمس والقمر، وبين موسى وفرعون الذي كان يأتمر بأمر الشيطان، وهكذا على مدار التاريخ يوجد صراع بين الحق والشر، وبين الخير والباطل، ينحاز فيه فئة من البشر إلى الرسل.
وأتباع الرسل يسيرون في الحياة بمنهج الله تبارك وتعالى، ويتحاكمون إلى شرع الله، ويرفعون راية التوحيد وراية الإيمان، ثم يحدث في أتباع الرسل الانحرافات التي تقربهم من الباطل، وتبعدهم عن الحق، كما حدث في تاريخ بني إسرائيل، فقد اختارهم الله تبارك وتعالى واصطفاهم، إذ استقاموا على طاعة الله {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان:32]، ((وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ)) أي: بني إسرائيل اختارهم الله واصطفاهم عندما كانوا موحدين مسلمين مخلصين دينهم لله، {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) [البقرة:47].
ثم بدأ مسلسل الانحرافات في تاريخ بني إسرائيل من عبادة للعجل، وعبادة للأصنام والأوثان، وتمرد على شرع الله، وقتل للأنبياء وللصالحين الذين يأمرونهم بالحق، وينهونهم عن الشر، ولم يزل هذا المسلسل (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة:87].
وانتهى الأمر ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وقد حصل الانحراف الرهيب، من تحريف لدين الله، وكتمان للحق، وابتعاد عن الله، وجاءت بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم فجراً جديداً للبشرية، تضيء الظلمات التي في النفوس والقلوب، التي غطت العقول، وتخرج البشر من الجاهلية إلى الإسلام، وإلى الهدى وإلى النور، وإلى معرفة الله الحق، وإلى الابتعاد عن ظلمات الشيطان وخطواته.