لما فتحت البلدان ووجدت بوادر للاختلاف على أصل الأصول وهو القرآن، بادر الصحابة -رضوان الله عليهم- بجمعه، فجمع في عهد أبي بكر جمعاً مبدئياً، ثم جمع الجمع النهائي في عهد عثمان -رضي الله تعالى عنه-، وكَتَبَ منه نسخاً أربع، أو خمس، وأرسلها إلى الأمصار، واعتمدها الناس، ومازالت بأيدي الناس إلى يومنا هذا، وهذا برهان على حفظ القرآن الذي تكفل الله بحفظه من الزيادة والنقصان، حتى ذكر البيهقي في دلائل النبوة: عن يهودي دعاه القاضي يحيى ابن أكثم إلى الإسلام، فلم يُسْلِم، لم يسلم لما دعاه القاضي يحيى ابن أكثم، وبعد ذلك، بعد مرور سنة كاملة جاء ليعلن إسلامه على يدي القاضي يحيى ابن أكثم، فسأله عن السبب في هذا التأخر؟ فذكر له: أنه عمد إلى التوراة فكتب منها نسخاً حَرَّفَ فيها وغير وبدل، ثم ذهب بها إلى سوق اليهود، فتخطفوها من يده، واشتروها، وقرؤوها، وعملوا بما فيها، ثم صنع مثل ذلك في الإنجيل، -قدم وأخر وزاد ونقص وحرف-، ثم بعد ذلك عرضه على النصارى، فاشتروه، واعتمدوه، ثم بعد ذلك عَمِدَ إلى القرآن الكريم فغير فيه تغييرات يسيرة جداً لا تكاد تُلْحَظ، فجاء به إلى سوق المسلمين -سوق الوراقين- من المسلمين، فمن نظر فيه رماه في وجهه، ثم بعد ذلك أعلن إسلامه، وذكر القصة ليحيى بن أكثم.
فلما حج يحيى بن أكثم التقى سفيان بن عيينة، واجتمع به، وذكر له القصة، فقال: هذه القصة شاهدها في القرآن، فالله -جل وعلا- تكفل بحفظه {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [(9) سورة الحجر]، لا يستطيع أحد، ولا يجرؤ أن يزيد أو ينقص، وأما بالنسبة للتوراة والإنجيل، فقد استحفظوا عليها، ووكل حفظهما إليهم، فلم يحفظوا، فوقع ما وقع من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان، هذا الكتاب المحفوظ بين الدفتين هو أصل الأصول بالنسبة لهذا الأمة، وفي فلكه تدور جميع الكتب، بما في ذلك السنة؛ لأنها مفسرة للقرآن ومبينة له وموضحة للقرآن.
نعم! فيها أحكام زائدة على ما جاء في القرآن وتستقل بتشريع بعض الأحكام، وهي من الوحي كما قال: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى*ِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [(3 - 4) سورة النجم].
تدوين السنة: