قول ربنا تبارك وتعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ)).
القوام: صيغة مبالغة، أي: كونوا في كل أحوالكم قائمين بالقسط، وهو العدل في حقوق الله وحقوق عباده، والقسط في حقوق الله: ألا يستعان بنعمه على معصيته، بل تصرف في طاعته، والقسط في حقوق الآدميين: أن تؤدي جميع الحقوق التي عليك كما تطلب حقوقك.
((شُهَدَاءَ لِلَّهِ)) أي: أدوها ابتغاء وجه الله، كما قال سبحانه: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق:2]، حسبة لله وتعاملاً مباشراً مع الله، لا لحساب أحد من المشهود لهم أو عليهم، ولا لمصلحة فرد أو جماعة أو أمة، بل تجرداً من كل ميل وهوى، ومن كل مصلحة، ومن كل اعتبار.
((وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ)) أي: ولو عاد ضررها عليكم، فإن الله سيجعل لمن أطاعه فرجاً ومخرجاً.
والمراد بذلك: الإقرار، فهو شهادة على النفس بإلزام الحق.
((أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ)) أي: ولو عاد ضررها على الوالدين والأقربين، فإن الحق حاكم على كل أحد.
((إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا)) أي: إن يكن المشهود عليه غنياً يرجى في العادة ويخشى، فلا ترعاه لغناه، أو كان فقيراً يترحم عليه في الغالب ويحمى، فلا تشفق عليه لفقره.
((فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا)) أي: الله يتولاهما، بل هو أولى بهما منك، وأعلم بما فيه صلاحهما، فلا يكن غناه ولا فقره سبباً للقضاء له أو عليه، والشهادة له أو عليه.
والمقصود من الآية: التحذير من التأثر بأحوال يلتبس فيها الباطل بالحق لما يحس به من عوارض يتوهم أن مراعاتها ضرب من إقامة المصالح، وحراسة العدالة، فمن الناس من يتوهم أن الغنى يربأ بصاحبه عن أخذ حق غيره، فيقول في نفسه: هذا في غنية عن أكل حق غيره، وقد أنعم الله عليه بعدم الحاجة، ومن الناس من يميل إلى الفقير رقة له، فيحسبه مظلوماً، أو يحسب أن القضاء له بمال الغني لا يضر الغني شيئاً، فنهاهم الله عن هذه التأثيرات بكلمة جامعة، وهي قوله سبحانه: ((إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا)).
يقول العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى: وقد عرفت قاضياً لا مطعن في ثقته وتنزهه، ولكنه كان مبتلى باعتقاد أن مظنة القدرة والسلطان ليسوا إلا ظلمة من أغنياء أو رجال، فكان يعتبر هذين الصنفين محقوقين، فلا يستوفي التأمل لحججهما.
قال تعالى: ((فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا)) أي: فلا يحملنكم الهوى والعصبية وبغض الناس إياكم على ترك العدل في أمركم وشئونكم، بل الزموا العدل على أي حال كان، كما قال سبحانه: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8]، وذلك ما قاله عبد الله بن رواحة رضي الله عنه حين أراد اليهود رشوته ليرفق بهم، فقال لهم: والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إلي، ولأنتم أبغض إلي من أعدادكم من القردة والخنازيز، وما يحملني حبي إياه وبغضي لكم على ألا أعدل فيكم، فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض.
قال الله تعالى: ((فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا)) يحتمل المعنى هنا: العدل أو العدول، كأنه قال: فلا تتبعوا الهوى كراهة أن تعدلوا بين الناس، أو: إرادة أن تعدلوا عن الحق.
((وَإِنْ تَلْوُوا)) أي: وإن تحرفوا الشهادة وتغيروها كما قال مجاهد وغير واحد من السلف، واللي هو التحريف وتعمد الكذب، كقول الله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ} [آل عمران:78].
((أَوْ تُعْرِضُوا)) أي: تكتموا الشهادة، قال تعالى: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة:283] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها).
((فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)) وسيجازيكم على ذلك.