المسألة الرابعة: هل تشترط وسيلة معينة للسفر؟
صلى الله عليه وسلم لا تشترط فمن سافر في البحر فهو في الحكم كمن سافر في البر، وقد سأل تميم الداري عمر بن الخطاب رضي الله عنهما عن ركوب البحر، فأمره بقصر الصلاة فيه، وتميم بن أوس الداري الفلسطيني كان رجلاً نصرانياً فأسلم، وسبب إسلامه: حديث الجساسة، وهو في صحيح مسلم وفيه: أنه ركب البحر فاضطربت بهم السفينة، ثم أرفأت إلى جزيرة فوجدوا فيها دابة كثيرة الشعر لا يدرون قبلها من دبرها، قال: فخفنا أن تكون شيطانة، فسألناها ما أنت؟ فتكلمت بلسان عربي مبين وقالت: أنا الجساسة، واعمدوا إلى ذلك الدير فإن به رجلاً هو إلى خبركم بالأشواق، فدخلنا فإذا رجل عظيم الهامة كثير الشعر مجموعة يداه ورجلاه إلى عنقه، فقلنا: ما أنت؟ فبدأ يسألنا ويقول: هل أثمر نخل بيسان؟ فقلنا: نعم، فقال: يوشك ألا يثمر- وبيسان مدينة في فلسطين- وهل ما زال في طبرية ماء؟ -وطبرية بحيرة في فلسطين- قلنا: نعم، قال: يوشك ألا يكون بها ماء، ثم قال: هل خرج نبي الأميين؟ قلنا: نعم، قال: هل تابعته العرب؟ قلنا: لا، قال: إنه خير لهم لو تابعوه، قلنا له: ما أنت؟ قال: أنا الدجال، ويوشك أن أخرج فلا أدع بلداً إلا وطئتها إلا مكة وطيبة، فلما كلم تميم الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الكلام أمر بلالاً بجمع الناس ثم قال لـ تميم: حدثهم، فضرب النبي على المنبر وقال: هذه طيبة وطابة، يعني: المدينة يريد بذلك أن يزيد المؤمنين إيماناً، مثل حكاية الرجل الذي كان يرعى الغنم فجاء ذئب وخطف واحدة منها وأقعى عليها، يعني: قارب على افتراسها، فلحق به الراعي وخلص الشاة، فقال له الذئب بلسان عربي مبين: أما تتقي الله وقد حلت بيني وبين رزق ساقه الله إلي؟ فقال الرجل: عجباً لذئب يتكلم بكلام الإنس! فقال له: ألا أدلك على أعجب من ذلك؟ قال وما ذاك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله في المدينة وأنت مشغول بغنمك، فقال له: إذاً آتيه، ولكن من لي بغنمي؟ فقال له الذئب: أنا أحرسها لك، فجاء الأعرابي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وحكى له، فجمع الرسول صلى الله عليه وسلم الناس، وقال للأعرابي: حدثهم، فلما تكلم الأعرابي قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صدق.
لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنس، وحتى يكلم الرجل عذبة سوطه)، يعني: طرف عصاه، والحديث صحيح في سنن الترمذي.
وتميم الداري رضي الله عنه سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن ركوب البحر؟ -وكان عظيم التجارة في البحر- فأمره عمر بقصر الصلاة، واستدل رضي الله عنه- وهو الفقيه- بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس:22]، وهذا يسمى عند الأصوليين: الإلحاق بنفي الفارق، فإذا كان ربنا جل جلاله أباح القصر في البر فكذلك في البحر، والعلة المشتركة هي السفر.
وكذلك الجو، فإذا كنت في الطائرة وخشيت أن يخرج الوقت فصل في الطائرة، وقد كتب في ذلك العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله رسالة لطيفة في حكم الصلاة في الطائرة، ومما قاله فيها: وإذا دل الكتاب والسنة الإجماع على صحة الصلاة في سفينة البحر فاعلم أنه لا يوجد بينها وبين الطائرة فرق له أثر في الحكم؛ لأن كلاً منهما سفينة محرسة ماشية يصح عليها الإتيان بجميع أركان الصلاة من قيام وركوع وسجود واعتدال وغير ذلك، وكل منهما تمشي على جرم- بكسر الجيم- لأن الهواء جِرم بإجماع المحققين من نظار المسلمين والفلاسفة، وتتحقق صحة ذلك إذا نفخت قربةً -مثلاً- فإن الرائي يظنها مملوءةً بالماء ولو كان الهواء غير جرم لما ملأ الفراغ.
والشيخ رحمه الله كان رجلاً فيلسوفاً بالإضافة إلى حفظه للقرآن والسنة والفقه وأقاويل العلماء وتبحره في العلوم والفنون، وقد جاءه فيلسوف فرنسي ذات مرة فقال له: ما الدابة؟ قال: الدابة كل ما يدب على الأرض، قال له: إذاً السيارة دابة، فقال له: لا؛ أنا قلت لك: كل ما يدب على الأرض، والسيارة لا تدب وإنما تدبب، يعني: لا تدب بنفسها بل لابد لها من قائد يحركها ويقودها فلا يصدق عليها اسم الدابة، ويجب التنبيه لهذا الأمر؛ لأن بعض الناس يقول: وركبنا الدابة ويقصد بها السيارة.
أما الدابة فهي كل ما دب على الأرض كالإنسان والحيوان والطائر وغيره، قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6].
وبالنسبة للصلاة في الطائرة إذا كانت الرحلة طويلة بحيث يخشى فوات الصلاة، ففي هذه الحال يصح لك أن تصلي في الطائرة قصراً وجمعاً.