المسألة الثالثة: ما هي المسافة التي يباح في مثلها القصر؟ قال المالكية رحمهم الله: لا تقصر الصلاة إلا في سفر يبلغ أربعة برد، والبريد: أربعة فراسخ إلى ستة عشر فرسخاً، والفرسخ: ثلاثة أميال فأصبحت ثمانية وأربعين ميلاً، والميل: كيلو وستين بالمائة من الكيلو، فالمسافة تزيد على السبعين كيلو، ثم بعد ذلك شرق الفقهاء وغربوا وأتهموا وأنجدوا وخرطموا ودرمنوا، فقال بعضهم: مسافة القصر اثنان وسبعون كيلو متراً، وقال آخرون: مسافة القصر ثمانون كيلو وأربعة وستون بالمائة، وهو تحديد الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا الساعاتي في كتابه: الفتح الرباني شرح مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني.
وحدد المسافة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام في كتابه (تيسير العلام شرح عمدة الأحكام) فقال: إنها مسافة اثنين وسبعين كيلو متراً.
وجاء آخرون فقالوا: هي مسافة اثنين وسبعين كيلو متراً ومائتين وثمان وثلاثين من ألف.
وقال بعضهم: إنها مسافة أربعة وثمانين كيلو متراً، والمالكية رحمهم الله ها هنا قالوا: هي مسافة أربعة برد.
والبرد: جمع بريد، والبريد: مسافة نصف يوم، وسمي بريداً؛ لأنهم كانوا إذا أرادوا المراسلات السريعة جعلوها في البريد، فيرتبون بين مسافة كل نصف يوم مستقراً ومستراحاً يكون فيه خيل، فإذا وصل صاحب الفرس الأول إلى هذا المكان نزل عن الفرس ليستريح الفرس وركب فرساً آخر إلى مسيرة نصف يوم، وقدروه بالزمن فقالوا: أربعة برد، وتساوي يومين قاطبين بالسير المعتدل.
فالمالكية قالوا: هذه مسافة القصر، ومن سافر دونها فلا يقصر، واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم)، قال الإمام أبو الوليد الباجي رحمه الله: إن مسيرة يوم وليلة ومسيرة أربعة برد واحد، واليوم والليلة في الغالب يسار فيه أربعة برد.
واستدلوا أيضاً بحديث ابن عباس أنه كان يقصر في المسافة ما بين مكة والطائف، ومكة وعسفان، ومكة وجدة، قال مالك: وذلك أربعة برد، وذلك أحب ما تقصر إلي فيه الصلاة.
واستدلوا أيضاً بحديث رواه ابن عباس بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا أهل مكة! لا تقصروا الصلاة في أقل من أربعة برد من مكة إلى عسفان)، وهذا حديث رواه الدارقطني رحمه الله، وهو ضعيف.
وقد اختلف المالكية والشافعية في تقدير هذه البرد.
والراجح الذي استقر عليه قول أهل العلم أن كل ما يسمى سفراً عرفاً يجوز أن تقصر فيه الصلاة.
قال ابن قدامة رحمه الله في المغني: التقدير بابه التوقيف؛ فلا يجوز المصير إليه برأي مجرد، والحجة مع من أباح الفطر لكل مسافر إلا أن ينعقد الإجماع على خلافه.
والمسافر في اللغة هو: من فارق محل إقامته، فيرجع في تعريفه إلى عرف الناس، فلا يعد الذهاب من جبرة مثلاً إلى المقرد سفراً.
فما سمي سفراً عرفاً جاز فيه القصر دون أن نحدد ذلك بمسافة ولا بأيام خاصة؛ حيث يستطيع الإنسان الآن أن يخرج من الخرطوم إلى مكة المكرمة في خلال ساعتين أو تزيد قليلاً ويكون في داخل الحرم.
وأيضاً في سفر المرأة بغير محرم نأخذ بعموم الرواية: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع محرم) وعلى هذا فكل ما يسمى سفراً عرفاً لا يجوز للمرأة أن تسافر إلا مع ذي محرم، دون نظر إلى المسافة أو الوسيلة، فلا فرق في السفر بطيارة أو بسفينة فالحكم واحد.