وهنا يأتيك السمو من أهل الجاهلية، لكن يُرشِّده الإسلام تحت مظلة التعالي عن الصغائر والترفع عن الرذائل، والرسول عليه الصلاة والسلام، يقول لابنة حاتم: {لو كان أبوك مسلماً لترحمنا عليه}.
حاتم قصة من البذل قصة من السمو قصة من الجود حاتم تهب الرياح النجدية فتلعب بالبيوت، وينضوي البخيل كالكلب في بيته؛ ويخرج حاتم، ويقول لغلامه: التمس لي ضيفاً، فإن أتيت هذه الليلة الشاتية -ليلة الجوع والفقر والجدب والقحط والسنة- إن أتيت بضيف فأنت حر وأنت طليق، ثم يقول له:
أوقد فإن الليل ليل قرُّ
والبرد يا غلام برد صِرُّ
إذا أتى ضيف فأنت حُرُّ
يقول:
أمَا والذي لا يعلم الغيب غيره ويُحيي العظام البيض وهي رميمُ
من هو؟
إنه الواحد الأحد.
لقد كنت أطوي البطن والزاد يُشْتَهى مخافة يومٍ أن يقال: لئيم
فهل طوينا بطوننا لآلاف الجائعين في أفغانستان وفلسطين وفي كشمير وفي البوسنة؟
هل اقتصدنا في نفقاتنا؟
وهذا حاتم في الجاهلية يقول: والله إني أطوي بطني وأنام جائعاً، وأترك الخبز، وأترك اللحم؛ لئلا يُقال: بخيل، وهو لا يرجو ثواباً ولا يخاف عقاباً، فكيف بمن صلَّى الخمس، وصام الشهر، وحج البيت؟!
هذه من مدرسة حاتم.
يقول في أخلاقياته الشريفة التي ذكره بها صلى الله عليه وسلم: أنا من صفاتي أني لا أُسابق حتى بالبغلة، أُعلِّمها الإيثار، بغلتي لا أُقدمها تشرب الماء من الحوض قبل أصحابي، بل أعلمها الأدب، لئلا تشرب قبل بغال الناس، فقل لي عن نفسي ونفسك ونحن في دائرة الإسلام ودائرة السنة: هل آثرنا جيراننا والفقراء والمساكين؟!
واسمعوها نظماً من نظم حاتم:
وما أنا بالساعي بفضل لجامها لتشرب ماء القوم قبل الركائبِ
ثم يقول في أدب آخر، أنثره ثم أنظمه، يقول: إذا مشيتَ مع قوم وأنت على ناقة، ومعك زميل يمشي على الأرض فاحذر! أرْكِبْه أو انزل معه، لا تركب وهو يمشي، أين الأخلاقيات؟! أين السمو؟! قال:
إذا كنت رباً للقلوص فلا تدَعْ رفيقَك يمشي خلفها غير راكبِ
أنخها فأركبه فإن حملتكما فذاك وإن كان العقاب فعاقبِ
وأنخها: أي: الناقة.
وقد جاء محمدٌ صلى الله عليه وسلم بالأخلاق ناصعة مشرقة طاهرة زكية لوجه الله، فقال في صحيح مسلم: {من كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له، ومن كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له}.
حدثني دكتور البارحة في مكة قال: وجدتُ أن الثراء الفاحش مع قلة الدين والفسق، إنما هو طغيان على الأمة.
ثم قال: كان طالب في مكة من تشاد معه سيارة مهلهلة مفلفلة، كأنها من الحرب العالمية الأولى، ولا تساوي خمسة آلاف، وكان من حسن أدبه وسلامة صدره، يوصل إخوانه وزملاءه إلى حاراتهم بهذه السيارة، فأين أهل الشبع وأهل الغنى والثراء؟ الذين يعيشون فحشاً وظلماً وفسقاً في الضمائر، إنها القلة مع الجود، وليست الكثرة مع البخل، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول فيما يُروى عنه: {لا يُؤمن من بات شبعان وجاره جائع}.
أما عروة بن الورد، وقد ذكر قصته وأبياته عالمنا وشيخنا الإمام المجدد عبد العزيز بن باز رحمه الله في كتاب القومية العربية ويضربها لنا -مثلاً- فيقول عن عروة: هذا جاهلي وأنت طالبُ حديثٍ ويُقرأ عليك صحيح البخاري وصحيح مسلم صباح مساء، فاستشْهِد بهذا وانظر إلى هذه المُثُل- فيقول عروة:
أُوَزِّع جسمي في جسومٍ كثيرةٍ وأحسو قراح الماء والماءُ باردُ
أتهزأ مني أن سمنتَ وأن ترى بوجهي شحوبَ الحق والحق جاحدُ
يقول: أتهزأ مني لأنك سمين وأنا نحيف؟
نعم! أنا نحيف وأنت سمين، لكن -والله- طعامي يحضره سبعة وثمانية وأنت تأكل الكبسة وحدك، والكبش المُضَبَّى وحدك، فيقول:
أُوَزِّع جسمي في جسومٍ كثيرةٍ وأحسو قراح الماء والماءُ باردُ
صُنِعَ للربيع بن خثيم طعاماً خبيصاً، والخبيص إذا أكلته رأيت مصر، فهو شيء مذهل، معه فستقٌ وزبيبٌ وعسلٌ ولبابُ البُرِّ ولحمُ الماعزِ الفاخرِ يُقَدَّم لك في جفنة، بعد أن تجوع ثلاثة أيام، فإذا أكلت قلت: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل!
قُدِّم للربيع بن خثيم العابد الزاهد وهو جائع، تكاد أضلاعه تختلف، فلما قدموا له الجفنة، وإذا بمسكين يطرق على الباب، وهذا امتحان وابتلاء من الله، إما أن يُقدمه للمسكين أو لنفسه، فقال: تفضَّل كُلْ! فقدم المسكين، فأكل أكل والي اليتيم ولاية السوء، قال: فصنع له أهله مرة ثانية خبيصاً وتعبوا، ولما قدموه ليأكل إذا بمسكين يطرق الباب، والربيع بن خثيم آية في الصدق والصلاح والطهارة والزهد، فقال: أدخلوه، فأكل، فلما أكل الثاني وقد كان أعمى، قال له أهله: والله ما يعلم هل هو خبيص أو لا؟ -أي: الأعمى- قال: لكنَّ الله سبحانه يعلم، فقالوا له: كيف؟
قال: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] ثم قال: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92].
يقول أحد الخطباء في العصر العباسي: إذا أعجبتك وجبة شهية، فقدمها للفقير فإنك سوف تأكلها في الجنة، ولا تأكلها أنت، فإنك سوف تُلقيها في بيت الخلاء، وهذا من فقهيات سمو الهمم.