وعن أنس رضي الله عنه وأرضاه قال: {واصل النبي صلى الله عليه وسلم آخر الشهر وواصل أناس من الناس، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لو مدَّ بي الشهرُ لواصلت وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم، إني لست مثلكم، إني أظل يُطعمني ربي ويسقيني}.
معنى الحديث: أن الرسول عليه الصلاة والسلام صام يوماً من الأيام ثم واصل، والمواصلة هنا، أي: مواصلة الليل بالنهار، فالرسول صلى الله عليه وسلم صام الليل مع النهار، فأتى أناس من الصحابة يريدون المواصلة، فقال عليه الصلاة والسلام: {أنا لست كهيئتكم! أني أظل يطعمني ربي ويسقيني} فواصل، فقال صلى الله عليه وسلم: {لو مد بي الشهر لواصلت بكم} يعني: تحدٍّ حتى يظهر من يستطيع أن يصبر ممن لا يستطيع أن يصبر، كالمنكل بهم صلى الله عليه وسلم.
ومعنى: {إني أظل يطعمني ربي ويسقيني} ليس معناه: أنه يطعمه الطعام، ويسقيه الشراب، فإنه ليس بصائم على هذا، لكن معناه: أنه يطعمه سبحانه وتعالى من المعارف والإشراقات والوحي والنور والحكمة ما يشبع به.
يقول الأندلسي:
فقوت الروح أرواح المعاني وليس بأن طعمت ولا شربتا
أي: إن قوت القلب هو أرواح المعاني والألفاظ والإبداعات ودلالات الألفاظ، والمعاني: هي التي تشبعك، وليس الطعام والشراب كما عند كثير من الناس.
فالرسول صلى الله عليه وسلم يُطْعم بالوحي، ويُسقى بالحكمة، فلا يظمأ.
قال ابن القيم عند هذه: نعم، هذا ما يدير الله عليه من المعاني والحكم، ثم أتى بأبيات، وهي لأحد العرب يخاطب محبوبته حاكياً عن ناقته لكنَّ ابن القيم قلب هذه الأبيات وجدها لتكون في حب العبد لمولاه تبارك وتعالى، يقول:
لها أحاديث من ذكراك تشغلها عن الشراب وتلهيها عن الزاد
لها بوجهك نور تستضيء به ومن حديثك في أعقابها حادي
إذا تشكت كلال السير أسعفها سوق القدوم فتحيا عند ميعاد
وهي من أحسن الأبيات، ذاك الشاعر يقول: أمشي بناقتي فتكل، فأُحدثها بأخبارك فتتشجع -انظر إلى الكذب الكثير- قال: فإذا أظلم الليل رأت من الأنوار فتوقت ومشت.
الشهرزوري يقول عنه ابن خلكان: له أبدع قصيدة عند العرب في معنى النور يقول:
لمعت نارهم وقد عسعس الليل ومل الحادي وحار الدليل
فتأملتها وفكري من البين عليل وطرف عيني كليل
وهذا كما قال سبحانه وتعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} [الشعراء:224 - 227].
{إني أظل يطعمني ربي ويسقيني} قال: "لو مد" والشاهد من الحديث (لو) وهي أداة امتناع لامتناع.