ومنها: قصة القرية حاضرة البحر، وهي قصة مبكية محزنة، هذه القرية كانت حاضرة على شاطئ البحر، وكانت في نعيم وأمن وسلام، الله عز وجل قال لبني إسرائيل: لا تعتدوا في السبت أي: لا تصيدوا السمك يوم السبت، صيدوا في كل الأيام إلا يوم السبت قالوا: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [البقرة:93].
وهم دائماً يقولون: سمعنا وعصينا، فنصح العلماء منهم وقالوا: يا أيها الناس! نخاف من الله أن يخسف بنا، فلا تصيدوا السمك يوم السبت، قالوا: فابتلاهم الله، يوم الأحد ويوم الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة فلا تأتيهم سمكة، إلا أن يبحثوا عنها في البحر، ويذهبوا بالقوارب والشباك ويجدوا ويجتهدوا وبكل كلفة يأتي شيء، وأما يوم السبت فتأتي شُرّعاً، حتى تملأ الساحل، حتى ما بقي إلا أن تصافحهم وتعانقهم، والمقصود أن الله ابتلاهم يوم السبت: {تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ} [الأعراف:163].
فأتوا وكان فيهم دهاء أحمق أوصلهم ذكاؤهم إلى الدرك الأسفل من النار، فاستخدموا الحيل المحرمة التي ذكرها ابن القيم في إعلام الموقعين، فقالوا: إن الله عز وجل نهانا عن الصيد مباشرة، لكن لو حفرنا أخاديد حتى تنشب الأسماك في هذه الأخاديد أو نسد عليها بالماء فما ترجع إلى البحر ونصيدها يوم الأحد! فحفروا الخنادق ومجاري الماء ووضعوا الشباك، فأتت الأسماك تدخل؛ فكلما امتلأت سدوا ما بينها وبين البحر فلا تستطيع أن تعود، ويأتون يوم الأحد فيأخذونها، فقال لهم الصالحون منهم: يا أيها الناس! إنكم ألحدتم في دين الله، وعصيتم الله، وتجاوزتم حده، هذا خطأ، قالوا: لا.
ما أخطأنا، يقول الله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142] ليس هناك أمكر منهم، فلما نصحهم أخيارهم وأبرارهم ولم ينتصحوا، فقال الصالحون: والله لا نساكنكم في قرية، اجعلوا بيننا وبينكم حاجزاً في القرية، وهذا هو المنهج الصحيح في التعامل مع المنكر وأهله، أما أن يأتي الإنسان ويجعل غترته على رأسه يذهب يصلي ويقول: الله المستعان! اللهم أصلح شباب المسلمين، ولا يأمر ولا ينهى ولا يوجه ولا ينصح ويقول: نفسي نفسي، فأقول: ليس في الإسلام نفسي نفسي، نفسي نفسي تكون يوم القيامة أما في الدنيا: {لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه أخذاً، ولتأطرنه على الحق أطراً، أو ليخالفن الله بين قلوبكم، أو يلعنكم كما لعن الذين من قبلكم} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
فبنوا حاجزاً بينهم، لكن ذلك بعد أن أعذروا إلى ربهم ولعلهم يتقون، وهذا واجب الداعية أول ما يعذر نفسه إذا دعا الناس، ويوم القيامة لا يخزيك الله يوم يخزي الفاسقين، لأنك أعذرت وبلغت.
والأمر الثاني: (لعلهم يتقون) علّ الله عز وجل أن يفتح عليهم، فعصوا وتمردوا وأبوا، وفي صباح الباكر خرج هؤلاء الصالحون ينظرون إلى أولئك، فسمعوا صياحاً مثل صياح القردة وأصوات الخنازير، فأشرفوا من السور وإذا الشق الآخر أو القسم الآخر من المدينة، وإذا هم قد أصبحوا قردة، وفي بعض الروايات من التفسير أن رجلاً كان يعرفهم يقول: يا فلان أأنت فلان؟ وهو قرد فيهز رأسه أن نعم، ويقول لفلانة: أأنت فلانة؟ فتقول: نعم، أي تهز رأسها!
ولما أخبر سبحانه وتعالى قال: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة:65].
فما اكتفي بوصفهم أنهم قردة؛ لكن قردة خاسئين،
و Q هل هذه القردة تناسلت؟ أي: القردة الذين نراهم في السودة وفي القرعة هم من إخوان شامير ورابين وهؤلاء اليهود، أم هم أبناء عمومتهم، أم هم فصيلة أخرى؟ الله أعلم والراجح أنهم قضي عليهم وما تناسلوا، وأما القردة الموجودة فخلق آخر، حول الله أولئك إلى مثل هؤلاء القردة.
والله عز وجل أنعم على اليهود من النعم ما أنعمها على أحد من العالمين، أعطاهم المنّ والسلوى وظلل عليهم الغمام لما كانوا في طور سيناء، عندما تاهوا أربعين سنة، ويقول لهم موسى: ادخلوا معي هذه القرية، قالوا: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24].
نحن نريد شيئاً جاهزاً أي: لا نريد أن ندخل في حروب مع الناس، لكن إذا فتحت القرية أنت وأخوك فسوف ندخل، أما أن نقاتل وننشب في الناس فلا، فدعا عليهم موسى أن يتيهوا في الأرض، فتاهوا أربعين سنة يأتون إلى طرف سيناء يريدون أن يخرجوا، فيقولون: أخطأنا الطريق فيعودون، فإذا وصلوا إلى الطرف الآخر ضاعوا، وهكذا أربعين سنة، وتكفل الله لهم وأنعم عليهم نعماً كثيرة، ففجَّر لهم من صخرة مربعة اثنتي عشرة عيناً لأنهم اثنا عشر سبطاً أي: اثنا عشر قبيلة كل قبيلة خمسون ألفاً، فهم ستمائة ألف كما يقول ابن جرير: فكانت لكل قبيلة عين.
وكل قبيلة لا تشرب من عين الأخرى، فأتوا يشربون، فقالوا: أين الطعام؟ هذا الماء بارد لكن أين الطعام؟ يتشرطون! قال: ماذا تريدون؟ قالوا: نريد أحسن طعام، فأتى لهم بالسلوى، وهي طيور مشوية يسقط عليهم في الصباح في موائد، ويقدم طازجاً فيأكلونها ويقولون: أين الحلوى؟ أي: يقصدون ما يتحلون به بعد الغداء، قال: هذا المن، فكانوا يأخذونه من على أوراق الشجر ويأكلونه، قالوا: هذا الماء وهذا الطعام لكن أين الظل؟ نبقى في الشمس؟! قال: يظلل الله عليكم بالغمام، فكان الغمام يسير معهم أفواجاً مع قبائلهم، فلما بقوا في هذه النعمة، قالوا: لا يصلح هذا؟ لا يصلح المن ولا الماء البارد ولا السلوى ولا يصلح الغمام، قال: ماذا يصلح؟ قالوا: {فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} [البقرة:61].
قال موسى: أعندكم عقول؟! {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة:61].
أي البصل والثوم بالمن والسلوى قالوا: لا نريد إلا هكذا! طبائعهم مثل الخنازير والقرود.
يقال: إن حماراً قدم له شيء من طعام طيب فيقول: برأسه كذا، أي أنه يريد أن يأكل برسيماً؛ لأنه تربى عليه، لذلك الجعلان ما يتربى إلا على دحرجة القاذورات، وأمة اليهود أخبث أمة على وجه الأرض، حتى يقولون: إنهم عضو أشل في تاريخ الأمة، ونحن نخاف أن نغتاب اليهود هذه الليلة، فالمقصود أنهم أعطوا المن والسلوى ولكن ما شكروا الله، فقال موسى: اهبطوا مصراً -قيل: أرض فلسطين - فإن لكم ما سألتم، وإنما فسرت بـ فلسطين لأنها نونت فدل على أن البلد المعروف غير مقصود وإلا لمنعت من الصرف، فليست مصر المعروفة التي هي عاصمتها القاهرة، والتي زلزلت مرة يوم كان أحد فراعنتها يحكم بالطاغوت، وبغير شريعة الله، فأراد الله أن يؤدبهم فتزلزلت مصر، فأراد هذا الطاغية أن يلين بالله عز وجل ويخشع ويبكي ويراجع حسابه مع الله؛ فقال شاعر من الشعراء: لا تخف، قال: ماذا؟ قال:
ما زلزلت مصر من كيد ألمَّ بها لكنها رقصت من عدلكم طربا