والأمر الخامس: عبادتهم العجل، نجاهم الله عز وجل، حتى أتى يهودي إلى علي بن أبي طالب ولن تجد أفطن من علي بعد الثلاثة، حاد الذهن، تصل كلماته إلى القلوب مباشرة، ولذلك يقول ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله: حسدته الأمم على ذكائه.
إي والله، رهيب الذكاء، ويدخل النار فيه طائفتان: طائفة أحبته حتى قدسته ورفعته فوق منزلته يجرها الله على وجوهها حتى يدخلها النار وهؤلاء هم الباطنية، وطائفة أبغضته حتى قطع البغض قلوبها فتدخل النار.
فـ علي رضي الله عنه يأتيه هذا اليهودي يقول: هيه يا أبا الحسن ما رأيتم شجرة فقلتم لرسولكم: اجعل لنا شجرة ذات أنواط، كما تعرفون في الحديث أن الصحابة لما نزلوا شجرة قال بعضهم: وكان حديث عهد بجاهلية كما في سنن أبي داود من حديث أبي واقد الليثي: {اجعل لنا ذات أنواط نعلق عليها سيوفنا كما يعلق المشركون}.
قال: ما خرجتم من المعركة يا أبا الحسن إلا قلتم لرسولكم صلى الله عليه وسلم: اجعل لنا ذات أنواط، فقال علي: [[وأنتم ما خرجتم من البحر حتى قلتم لموسى عليه السلام: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة]].
يروى عن علي أنه قيل له: كم بين الأرض والعرش؟ وعلي رضي الله عنه لا يعرف، لأنه ما قاسها، فقال: [[بين العرش والأرض دعوة مستجابة]].
قالوا: كم بين المشرق والمغرب؟ قال: مسيرة الشمس يوماً.
فلن تجد أثقب من ذهنه رضي الله عنه وأرضاه لإخلاصه وعبادته.
الشاهد: أن بني إسرائيل خرجوا من البحر، فلما خرجوا أتى السامري، واسمه موسى العزيز السامري، فهذا الغاوي المغوي اسمه موسى وكان في الركب الذي نجاه الله من البحر، وموسى بن عمران النبي الكريم عليه الصلاة والسلام اسمه: موسى كذلك وتسميه اليهود (موشي) وموشي ديان اسمه موسى في الأصل لكن يسمونه موشي، فموسى عليه السلام رباه فرعون في القصر معه، لكن انظر هداية الله عز وجل، وموسى هذا الغاوي المغوي السامري رباه جبريل:
فموسى الذي رباه جبريل كافر وموسى الذي رباه فرعون مرسل
والهداية من الله، والمصلح هو الله مع الدعاء والأسباب، يربى بعض الأبناء في البيت، ويقرأ دائماً عليه القرآن صباح مساء، ويسمع الذكر والمحاضرات والهداية والأنوار تشع فيأبى، وإنسان في بيت مظلم، لا يسمع إلا الغناء والمغنين والمغنيات الأحياء منهم والأموات، ولكن روحه تتوقد للإسلام: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [الروم:19].
عكرمة بن أبي جهل يأتي من صلب أبي جهل الذي يتردى يوم القيامة على وجهه في النار، وعكرمة يقول يوم اليرموك: من يبايعني على الموت، فيلبس أكفانه بعد أن يغتسل ويتحنط ويتطيب، ويضرج بالدماء ويذهب في سبيل الله، فسبحان الله! ونوح عليه السلام يقول لابنه: اركب معنا، قال: لا {سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنْ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} [هود:43] فصعد فلما أصبح في رأس الجبل وإذا بالماء يعلو، فيمد عنقه في الجو يظن أنه سوف يُفوت قدرة الله عز وجل فوصل الماء إلى عنقه فأخذ يتطاول حتى أعماه الماء.
إبراهيم عليه السلام يأتي إلى شيخ ضال يقول له: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} [مريم:43] أتاني علم من السماء وهو علم لا إله إلا الله، أتيتك به، قال: اعتزلني وإلا رجمتك، سبحان الله! أب ضال وابن صالح، وابن ضال وأب صالح، قدرة الله سبحانه وتعالى!
فلما خرجوا من البحر قال لهم السامري: أتدرون ماذا معي في هذا القرطاس أو في هذا الوعاء؟ قالوا: ما ندري، قال: هذا قبضة قبضتها من آثار جبريل عليه السلام يوم مر من البحر، وسوف أجعلها في حليكم فإنها تحدث أصواتاً، قالوا: وما الفائدة منها؟ قال: الفائدة أنه إلهكم، قالوا: وموسى كيف يذهب يكلم الله عز وجل من طور سيناء وإلهنا هنا، قال: نسي موسى، فموسى عليه السلام قال: يا بني إسرائيل أستأذنكم سأذهب لألقى ربي عز وجل، وكان موسى إذا أراد أن يذهب لمكالمة الله صام ثلاثين يوماً، استعداداً وتهيؤاً روحياً حتى يلقى الله عز وجل، لأنه يبقى أربعين ليلة والنور على وجهه بعد المكالمة، قال بعض المفسرين: فذهب موسى، وفي أثناء الطريق وجد خلوف فمه متغيراً لأنه صام كثيراً، فأخذ سواكاً يتسوك به، فلما كلمه الله لماذا أزلت آثار الصائم وهو أحب إليَّ من ريح المسك؟ قال: يا رب! ظننت أن هذه الرائحة متغيرة، قال: عد فصم عشرة أيام: {وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف:142] فعاد فصام عشرة أيام فلما صام عشرة أيام قال: يا بني إسرائيل أستأذنكم سأذهب لألقى ربي في طور سيناء.
المكالمة ضخمة تحتاج إلى لقاء، وتحتاج إلى حضور قلب، فلما مشى قال السامري: نسي موسى، قالوا: نسي ماذا؟ إلهكم هنا وذهب يكلمه -انظر إلى الغباء فيهم- قالوا: أين الإله؟ قال: اجمعوا لي الحلي، فجمعوا الحلي فصاغه حتى جعله على شكل العجل، ثم أدخل هذه الحفنة التراب فيه ثم أتى يصوت فيه فأحدث رجة وصوتاً قال: هذا إلهكم، فسجدوا لهذا العجل.
أتى موسى عليه السلام، وإذا عجل من ذهب واقف أمامه، قال: ما هذا؟ قالوا: هذا إلهنا!! سبحان الله! أربعون سنة، ومجاهدة مع فرعون وحادثة البحر، ومعجزات عظيمة ومع ذلك لم يستفيدوا منها شيئاً.
حتى إنه من الغضب ألقى الألواح وفي نسختها خير لهم وهدى.
يقول ابن تيمية: رحم الله موسى، وإلا كيف يلقي الألواح وفيها كلام الله، قال: لكن لما علم الله إخلاصه غفر له وسامحه، قال: فألقى الألواح وأخذ برأس أخيه، يبدأ بهارون، هارون أكبر من موسى يقال بسنة، لكن كان حبيباً قريباً إلى القلوب يعني: لما رآهم يعبدون، قال: لا هذا ليس بإلهكم، اتقوا الله ولم يستطع أن يفعل شيئاً.
فلما أتى موسى عليه السلام أخذ برأس أخيه وبلحيته يجره إليه، يقول: كيف توافقهم على هذا {قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه:94] خفت أن أقوم فيهم فينشقون قسمين فتقول: لماذا تتصرف قبل أن آتي؟ لأن موسى عليه السلام إذا وفد عند بني إسرائيل أصبحوا مثل الغنم إذا رأت الأسد، وهارون عليه السلام يتصرفون في حضوره.
أما موسى فلا يستطيعون، لأنه قوي أمين، ولذلك يصفه عليه الصلاة والسلام بالقوة يقول: {كأنه من أزد شنوءة} فلما عبدوا العجل قال إنهم: إن من توبتكم أن تقتلوا أنفسكم، قالوا: كيف نقتل أنفسنا؟ قال: يأخذ كل واحد منكم سكيناً بيده وسوف ينزل الله عليكم ظلمة شديدة حتى لا يرى الإنسان ابنه ولا خاله ولا عمه فتدركهم الشفقة، فأنزل الله عليهم الظلمة فجعلوا يتقاتلون بالسكاكين حتى قتل كثير منهم، ثم قال موسى: كفوا تاب الله عليكم، فتابوا.