سبب الحديث:
الرسول عليه الصلاة والسلام قدم مهاجراً من مكة إلى المدينة، وأمست مكة في ثوب حزن وأصبحت في حداد، وبكت وبكى عليه الغار.
وبكى الغار على فرقاك لو أسعفته الرجل أضحى في مسير
والصحارى حافلات بالمنى تتلقاك بتصفيق مثير
والرمال العفر صارت حللاً عجباً من قلبك الفذ الكبير
انطلق عليه الصلاة والسلام ووصل إلى المدينة واستفاقت المدينة على أذان بلال وكانت في جاهلية جهلاء كما يقول أبو ريشة الشاعر المعروف يقول في طريق الهجرة:
يا عمي لا تدعني هنا وحدي ما لي سواك من مفضال
فتلقاه بالدموع وسارت بهم الخيل في شعاب التلال
واستفاقت يعني: المدينة.
واستفاقت على صباح جديد ملء آذانها أذان بلال
فلما استفاقت نفضت فراش الشرك والوثنية، واستقبلت الرسول عليه الصلاة والسلام.
عبد الله بن سلام عالم وحبر من أحبار اليهود، وهو الذي قال الله فيه: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} [الأحقاف:10].
من هو الشاهد؟ ابن سلام عليه السلام ورضي الله عنه وأكرم مثواه.
ولذلك يقول سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89] من عرفوا؟ الرسول عليه الصلاة والسلام، صفاته مكتوبة في التوراة بلونه، وبشرته، وطوله، وقِصَره، وبما يتكلم به، صفاته مكتوبة كلها في التوراة فلما أتوا قارنوا كما يقول ابن القيم: بين النسخة التي أتى بها موسى والتي أتى بها محمد صلى الله عليه وسلم؛ فوجدوا الوصف واحداً، فأتى الحسد فنظر في قلوبهم فقال: لا ليس هذا بالوصف، كنا نظن أنه هو واكتشفنا الآن أنه ليس هو، وقبل كانوا يخطبون في المدينة ويقولون: سوف يقدم من أرض ذات جبال سود -يعني: مكة - وسوف يأتي إلى أرض ذات نخيل -يعني: المدينة - وفعله كذا، واسمه محمد وأحمد، فلما أتوا إليه نظروا فملأ الحسد قلوبهم، فقالوا: ليس هو، فقال الله عز وجل: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89].
لما دخل المدينة عليه الصلاة والسلام اجتمع عليه الناس في السوق، ففزع الناس يريدون أن ينظروا إلى هذا الخبر، فإنه نبأ عظيم ما طرق الدنيا منذ خلقها الله إلى الآن مثل هذا الخبر {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ} [النبأ:1 - 2].
هل هناك أعظم نبأ من أن يبعث الله رجلاً واحداً من الأمة يحيي قلوب الأمة كلها، ويقودها، ويقول: من يذهب معي في طريقي فالجنة، ومن تخلف عني فالنار، فذهب عبد الله بن سلام وهو من اليهود، قال: انجفل الناس -يعني: اجتمع الناس- على الرسول عليه الصلاة والسلام، فكنت فيمن انجفل، قال: فأتيته فنظرت إلى وجهه فعرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب.