الآن نستمع إلى القرآن وإلى الحديث النبوي وهما يتحدثان عن بني إسرائيل، والعجيب أن سورة البقرة يقف معها الناس في صلاة التراويح، وأنت تسمع كأن سورة البقرة كلها لبني إسرائيل، قال سيد قطب في الظلال: لا بد من هذا النسف والإبادة والتدمير في أول القرآن لبني إسرائيل لأنهم عاشوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة جيراناً، ولأنهم أتوا بمفتريات في العالم، فلا بد أن يبدأ القرآن ليصفي الساحة من طريق الرسول صلى الله عليه وسلم، وليكشف أباطيلهم وتهريجهم وخرافاتهم، ثم يأتي بعدها بالتحلية، قال أهل الفهم: التخلية أولاً ثم التحلية.
فالتخلية أن يخلي الساحة، ينظف الساحة ثم يأتي بتحلية الشرائع والأديان، تحدث القرآن عنهم في أكثر من مقطع وأكثر من سورة حتى كاد القرآن أن يكون لهم، ولذلك ما تقرأ في سورة إلا وتفاجأ: ولقد أرسلنا موسى حتى ورد عن ابن تيمية أنه قال: رحم الله موسى عليه الصلاة والسلام كاد القرآن أن يكون كله عنه، لماذا؟ لأن الحرب بينه وبين فرعون كانت في الجو والبر والبحر، العصا مع الثعابين كانت تقفز في الجو، وكان ينازله في الميدان وفي القصر وفي البحر، فاشتبكت كل القوات وهو أكبر صراع عالمي شهده التاريخ، ومكايدهم في القرآن كثيرة نأخذ عيونها أو مجملها أو خطوطها العريضة لنكون على بصيرة، ومن أعظم ما يتبصر به المؤمن أن يعرف أهل الإلحاد والكيد وأهل الصهيونية العالمية حتى يزداد إيماناً وثقة بالله.
والعجيب أنك إذا قرأت في كتب الإلحاد ازدادت ثقتك بالله إذا كان عندك أصل أصيل من الإيمان، وفقه في الدين، فإن الله امتن على رسوله عليه الصلاة والسلام بقوله: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55] أي: نفصل لك الآيات حتى تكون على بصيرة، والذي لا يعرف الجاهلية لا يعرف الإسلام، والذي لا يذوق الحر لا يعرف نعمة البرد، والذي لا يطعم المر على لسانه لا يرى للحلاوة حلى، ولا للعذوبة عذوبة.
ولذلك قال عمر رضي الله عنه وأرضاه: [[إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة من أناس دخلوا في الدين ولم يعرفوا الجاهلية]] فكان أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام أعظم الناس إيماناً ويقيناً وصدقاً وإخلاصاً، لأنهم عرفوا الجاهلية، وعرفوا مرارة الإلحاد والكفر، ثم ذاقوا حلاوة الإسلام، ولذلك ما كان علمهم إشغالاً للذهن وجدلاً كما هو علمنا الآن إلا من رحم الله، بل كان علمهم واقعاً يتعلمون الآية فينشرونها في ليلة واحدة في المدينة، يتعلمون الحديث فيعلمونه الناس جميعاً.
علي بن أبي طالب يتعلم حديث الوضوء فيبقى في كل مكان يجمع الناس ويتوضأ، ويقول: هكذا رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم يتوضأ، هذه هي الشريعة، هل هناك ألغاز؟ هل هناك أسرار؟ هل هناك أشياء مخبأة وراء الكواليس؟ لا والله، يقول الأستاذ علي الطنطاوي في أول كتاب قصص من التاريخ: مبادئنا نعلنها يوم الجمعة من على المنبر، ما عندنا أسرار، ولا أحاجي، ولا ألغاز ولا دسائس، نحن المسلمين مبادئنا تدور حول لا إله إلا الله والصلاة والتيمم والوضوء والمسح على الخفين والغسل من الجنابة، وهي التي علمها الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه، أما غيرها فوالله ليس في جعبتنا ولا في حقائبنا شيء.
فـ علي أتى بعد عثمان، وعمر بعد أبي بكر يبينون للناس هذه الشريعة التي تلقوها من الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقول أحد علماء المسلمين: من ظن أن هناك شيئاً لم يأت به صلى الله عليه وسلم ولم يعلمه عامة الناس فقد ادعى أن الرسول صلى الله عليه وسلم خان الرسالة وحاشاه أن يخون، أما الرسالة التي أتى بها فهي في القرآن عليه الصلاة والسلام.