ومِن الطُّرف أن الأعشى -ونحن في مقام الأدب، وسوف نأخذ من هذه القصة عبراً- وكان الأعشى شاعر بكر بن وائل، يقول عن قبيلته وهو يمدحها:
لما التقينا كشفنا عن جماجمنا ليعلموا أننا بَكر فينصرفوا
قال البقية والهندي يحصدهم ولا بقيةَ إلا السيف فانكشَفوا
أتى يريد أن يسلم، ويريد أن يهديه الله عز وجل، ولكن كأن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى علم عدم محبة الهداية من قلبه، والله سبحانه إذا علم منك حب الخير والهداية، والمسير إليه هداك وتولاك ورعاك: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:23 - 24] وقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] وقال سبحانه: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5] هم الذين زاغوا، فأزاغ قلوبهم بعد أن زاغوا.
فأتى هذا الرجل من اليمامة وأراد المال والدنيا، ولم يرد الهداية، فركب ناقته وكان أعْشَى لا يبصر إلا قليلاً، فلما ركب ناقته نظم قصيدة عصماء من أجلِّ القصائد عند العرب، يمدح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويريد أن يعطيه من مال الدنيا وذهَبِها وفضَّتِها، وجهل هذا الشاعر أن نعمة الله ورحمته أجلُّ: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58] فالسعادة عند المسلم ليست ذهباً وفضة، أو سيارة أو قصراً، أو منصباً أو وظيفة، فهذه والله أتفه من الحذاء الذي في أرجلنا! وكل هذه الأمور لا تساوي جلوسك في المسجد ساعة تسبح وتقرأ القرآن، أو تدعو الله عز وجل! والله لو طلعت الشمس على كنوز الدنيا وذهبها وفضتها، ثم قلت -كما صح في صحيح مسلم.
سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر -وهن أربع كلمات- لما كانت الدنيا كلها تعدل هذه الكلمات الأربع، يقول صلى الله عليه وسلم: {لأن أقول: (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) أحب إلي مما طلعت عليه الشمس} فهذه الدنيا زهيدة رخيصة، وسخيفة لا يعشقها إلا السخفاء، إنما نحن نتمول منها، نأكل ونشرب، ونسكن ونتعاطها؛ لأننا نمتهنها، أما إذا دخلت قلوبنا فنعوذ بالله منها.
فأتى الأعشى يريد الدنيا، يقول عَزَّ مِن قائلٍ: {كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} [الإسراء:20] من أراد الدنيا يؤتيه الله من الدنيا، ومن أراد منصبها يعطيه من مناصبها، ومن أراد ذهبها وفضتها فليأخذ من ذهبها وفضتها، ولكن من أراد التقوى أعطاه الله من التقوى، ومن أراد العلم والفقه في الدين أعطاه الله من العلم والفقه في الدين: {كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} [الإسراء:20] فركب الأعشى ناقته، وأخذ يترنَّم على الناقة، يجهِّز قصيدة؛ ليعرضها على الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقول:
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا وعادك ما عاد السليم مسهدا
شباب وشيب وافتقار وثروة فللَّه هذا الدهر كيف ترددا
فآليت لا أرثي لها من كلالة ولا من وجى حتى تزور محمدا
متى ما تناخي عن باب ابن هاشم تراحي وتلقي من فواضله يدا
ثم أتى ببيتين من أحسن الأبيات، ويا ليته نفع نفسه بها واتعظ بها وأفادته في الحياة! لكن لم تنفعه، يقول:
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على ألاَّ تكون كمثله وأنك لم ترصد لما كان أرصدا
فهذه موعظة؛ لكن ما اتعظ بها صاحبها، وكم من واعظ لا يتعظ، وكم من ناصح لا ينتصح، وكم من إنسان يرى الحق ولكن لا يتبعه! يقول الله عز وجل للإنسان: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:8 - 10] أي: فلماذا لا يهتدي؟! ولماذا لا يسلك الطريق الصواب؟!
فذهب هذا الرجل فلقيه أبو سفيان - وكان أبو سفيان عدواً للرسول في تلك الفترة - فقال: إلى أين يا أعشى؟ قال: أذهب إلى محمد الذي يزعم أنه نبي صلى الله عليه وسلم قال: ماذا تريد؟ قال: أريد أن أمدحه بقصيدة؛ كما أمدح ملوك العرب، فيعطيني مائة ناقة، هذا مراده، وهذا مقصده، ولو كان يريد الهداية لسهل الله له الهداية، ولو كان يريد الاستقامة لأعطاه الله الاستقامة، لكن أراد الدنيا، فقال له أبو سفيان: أنا أعطيك مائة ناقة وعد من هنا؛ لأن أبا سفيان خاف أن يسلم هذا الشاعر -وقد كان وزارة إعلام متنقلة- فيفضح الجاهلية، ويندد بها في شعره، فرده بمائة ناقة فعاد، ولما قرب من الرياض، في ديراب - المكان المعروف الذي ذكره المؤرخون -وقصته ناقته، فإذا هو ميت، فلا دين ولا دنيا، لا ناقات سلمت له ولا حياة سعد بها، ولا (لا إله إلا الله) تمكنت في قلبه، ولا توجَّه إلى الله، فهذا هو التباب والخسار، وبقي هذان البيتان شاهدين عليه، يشهد كل بيت عليه، لأنه لم يتعظ.
فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يستمع للشعر وكان يقبله.