سابعاً: معاذ بن جبل، أعلم هذه الأمة بالحلال والحرام، كان يشهد العشاء مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يرجع إلى قومه ويصلي بهم إماماً وهم مأمومون، ويجعل صلاته الثانية نافلة له ولهم فريضة، وفيه دليل على جواز ائتمام المفترض بالمتنفل، وأنتم ترون بعض الناس إذا أتى متخلفاً ونحن في التراويح والنافلة لا يدخلون معنا وهذا خطأ، بل الأحسن والسنة أن يدخل ولو كان مفترضاً ونحن متنفلون، فإمامة المفترض بالمتنفل واردة لحديث معاذ هذا وهو صحيح، وإمامة المتنفل بالمفترض واردة لحديث الأسود بن يزيد عن أبيه أنه صلى الله عليه وسلم كان في مسجد الخيف، ثم مال فوجد رجلين فأنكر عليهما يوم تركا الصلاة وقال: {مالكما؟ قالا: صلينا في رحالنا، قال: لا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما والناس يصلون فصليا معهم؛ فإنها لكما نافلة} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فهنا أربع صور صحيحة، إمامة المفترض بالمفترض وهذا بالإجماع، وهو الذي نفعله، إمامة المتنفل بالمفترض وإمامة المفترض بالمتنفل، وإمامة المتنفل بالمتنفل وكلها واردة، وعلى كل صورة حديث وإنما ذكرتها للفائدة.
وكان معاذ رضي الله عنه يطول بأصحابه إذا صلى بهم، فشكاه أحدهم بعد أن ترك الصلاة معه، وقد كان كما في بعض الروايات يقرأ سورة البقرة أو بعضها في صلاة العشاء، فأتى رجل كان يشتغل في النخل مجهداً، ثم دخل بيته فتوضأ وأتى يلحق معاذاً، فانتظر ركوعه وإذا هو يقرأ وكلما انتهى من مقطع من القرآن بدأ بالمقطع الآخر، معاذ عالم وفاهم وقلبه منشرح للعبادة نشيط، ولكن ظروف الناس تختلف؛ فيهم الضعيف والصغير وذو الحاجة والمريض، فمال هذا الرجل وانفصل فصلى وحده، ثم ذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد سأل معاذ عنه ماله ما صلى معنا؟ قالوا: ترك الصلاة معك وصلى وحده قال: هو منافق، فذهب الرجل فشكاه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فتغير الرسول صلى الله عليه وسلم وغضب غضباً شديداً واستدعى معاذاً ليحاكمه وقال: {أفتان أنت يا معاذ! أفتان أنت يا معاذ! أفتان أنت يا معاذ؟! اقرأ بالليل إذا يغشى وسبح اسم ربك الأعلى؛ فإنه يصلي وراءك الكبير والصغير والمريض وذو الحاجة} فأخذها معاذ درساً في التيسير ومراعاة الناس في الإمامة، ومراعاتهم في أحوالهم وحاجاتهم، وهو العدل الذي أتى به سُبحَانَهُ وَتَعَالى، لكن حمل بعضهم لسوء فهمهم إلى التخفيف المفرط الذي يضيع روح الصلاة وخشوعها وهدوءها، فهؤلاء مخطئون في صلاتهم.
وأرسله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، لما أتى وفد اليمن فبايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى أصحابه ليرسل أحدهم، ومن مواصفات الذي يرسل إلى اليمن أن يكون عالماً، وداعية وفقيهاً، وهي مجتمعه في معاذ رضي الله عنه، فهو عالم وداعية وفقيه، فأرسله صلى الله عليه وسلم وودعته أمه وهي تبكي فقال: يا أماه! أَمْرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس منه بد، فذهب، وودعه عليه الصلاة والسلام، وعند الترمذي أنه قال: {يا معاذ! اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن} وهو حديث حسن، وعند الذهبي في سير أعلام النبلاء بسند جيد: {يا معاذ! اذكر الله عند كل شجر وحجر ومدر} وبقي في اليمن حتى توفي عليه الصلاة والسلام ثم أتى إلى المدينة.
وللفائدة فهناك شريط منشور بين الناس وقد سمعتموه عن وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام بصوت ملحن وهذا لا يصح، وفيه أحاديث مكذوبة وموضوعة على المصطفى عليه الصلاة والسلام، ومن ضمن الشريط قال: فدخل معاذ على أبي بكر فأنشد، قال: من بالباب؟ ثم ألقى محاضرة عند الباب، فأنشد معاذ قصيدة وأبو بكر قصيدة، وعمر قصيدة، وعثمان قصيدة، وعلي قصيدة، وكل هذا ليس بصحيح ولا حدث، والذي أتى بهذا الشريط عامي لا يفقه في الإسلام ولا في السنة شيئاً، فليتنبه له.
وقبل أن يذهب معاذ إلى اليمن كان له مع الرسول عليه الصلاة والسلام موقف، ففي الموطأ يقول: {يا معاذ أحسن خلقك للناس} ويظهر أنه كان فيه حدَّة، فالرسول عليه الصلاة والسلام أتى يداوي هذه الأمراض بعلاج من عنده عليه الصلاة والسلام علمه الله إياه، خرج مع الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة، فذهب هو والمصطفى عليه الصلاة والسلام والجيش، فاقتربت راحلة معاذ من راحلة الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر الليل، فأخذها معاذ فرصة ليسأل الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! دلني على عمل يقربني من الجنة ويباعدني من النار، فقال عليه الصلاة والسلام: {يا معاذ لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه} والحديث في الترمذي وعند أحمد بسند صحيح {تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، ثم قال: ألا أدلك على رأس الأمر وعموده وذروة سنامه، قال: بلى.
قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله، ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير، الصوم جنة} يعني غطاء ووقاء وستر من النار {والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم تلا عليه الصلاة والسلام {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16]-إلى آخر الآية- ثم قال عليه الصلاة والسلام: ألا أدلك على ملاك ذلك كله؟ -يعني: ما يجمع لك أمرك ذلك- قال: بلى.
يا رسول الله! قال: كف عليك هذا وأخذ بلسانه -أي: احبسه وألزمه بالخير وجنبه الشر- قال: يا رسول الله! إنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على مناخرهم -أو قال: على وجوههم- إلا حصائد ألسنتهم} وهذا الحديث أصل من أصول أهل الإسلام، وجعله النووي في الأربعين النووية، وفيه قضايا:
أولها: لا عبادة إلا بتوحيد، ولا خير ولا بر إلا بعقيدة صحيحة.
ثانيها: التدرج في التعليم، فلا تبدأ بتعليم الناس السنن وتنسى الفرائض، كأن تأتي إلى أناس لا يصلون الصلوات الخمس فتحدثهم في اللحى، وتقصير الثياب، فلو ربوا لحاهم وهم ملاحدة أو زنادقة فإن ذلك لن ينفع.
ثالثها: أن أبواب الخير طرق إلى الجنة، وأن الناس يتفاضلون بالنوافل، ولذلك قال عز من قائل: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر:32] فالسابقون بالخيرات هم أهل النوافل، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي في الصحيحين عنه سُبحَانَهُ وَتَعَالى قال: {ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها} الحديث.
رابعها: أن اللبيب العاقل الفقيه قد يخفى عليه بعض المسائل، فـ معاذ خفي عليه أن الكلام من اللسان يؤاخذ به العبد، فأخبره عليه الصلاة والسلام أن أكثر ما يدخل الناس النار الألسنة، وتسعة أعشار ذنوبنا وخطايانا من اللسان، فالكذب من اللسان، والغيبة، والنميمة، والاستهزاء، والبذاءة، والفحش، واللعن، وقذف المحصنات، والبهتان، والزور، كل هذه من ذنوب اللسان، ولذلك قال بعضهم: تسعة أعشار الذنوب من اللسان والعشر يوزع على بقية الأعضاء.