ولـ معاذ حديث هو أصل في التوحيد والعقيدة، ركب مع الرسول صلى الله عليه وسلم على حمار اسمه يعفور وقيل عفير، وسيد الخلق وأبرهم وأشرفهم يركب الحمار ولكنه يقود القلوب إلى باريها.
يركب الحمار ولكنه أوجد رسالة خالدة أبد الدهر.
يركب الحمار ولكنه أرسل كتائبه ترفع لا إله إلا الله محمد رسول الله، وتبني العدل والسلام والإيمان.
يركب الحمار ولكنه زرع في الدنيا الإيمان والحب والطموح.
يركب الحمار ولكنه أخرج من الجزيرة العربية الساذجة علماء وشهداء وأدباء والله ما اكتحلت عين الدهر بمثل مرآهم؛ كـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي.
أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له وأنت أحييت أجيالاً من الرمم
أتطلبون من المختار معجرة يكفيه شعب من الأموت أحياه
ومن هذا يستفاد التواضع في ركوب الدابة، وفيه أن صاحب الدابة أولى بصدرها، وفي الحديث جواز الإرداف على الدابة إذا لم تتضرر، وفيه أنه لا بأس بأن يحدث الفاضل المفضول في مسائل تخص الأمة، قال صلى الله عليه وسلم: {يا معاذ! قال: لبيك وسعديك يا رسول الله! قال: أتدري ما حق الله على العباد؟ قال: الله ورسوله أعلم} وفيه أن من لا يعلم شيئاً فليكل علمه إلى الله، وهل يجوز لنا أن نقول بعد وفاته صلى الله عليه وسلم: (الله ورسوله أعلم) كأن تسأل أنت في مسألة اليوم فتقول: الله ورسوله أعلم، وقد مات الرسول عليه الصلاة والسلام، الصحيح عند أهل العلم أنك تقول: الله أعلم، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته لا يعلم شيئاً، أما في حياته فقد كان الصحابة إذا سئل أحدهم في مسألة وصعبت عليه قال: الله ورسوله أعلم، لكن إذا سئلت أنت في مسألة ولم تعرفها فقل: الله أعلم فقط، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه لا يعلم بعد موته شيئاً، لأنه ميت في قبره موتاً الله أعلم به، لكن حرم الله على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، وللفائدة صح الحديث في أجساد الأنبياء ولم يصح لفظ الشهداء، وقد سمعنا بعض الخطباء يقول: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء والشهداء، فزيادة الشهداء ليست صحيحة.
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
يا خير من دفنت في القاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم
لكن للفائدة فهو صلى الله عليه وسلم لا يشفع في قبره ولو كان يشفع كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية أو يستسقى به لفعل عمر ذلك وترك العباس، فهل ذهب إلى القبر وقال للرسول صلى الله عليه وسلم: قد قحطنا يا رسول الله! فادع الله أن يسقينا، لا.
بل ترك ذلك وذهب إلى العباس وقال: إنك عم الرسول عليه الصلاة والسلام فادع الله أن يسقينا، وقال في دعائه: اللهم إنا كنا إذا قحطنا استسقينا برسولك فتسقينا، وإنا نستسقي إليك بعم رسولك فاسقنا، ولذلك تجد الخرافيين وأهل النقص والبدعة يشكو أحدهم مرضه كما أتى البرعي من اليمن ووقف في الروضة وهو شاعر اليمن المخرف البدعي:
وهو من أقوى الشعراء صراحة، لكنه مخرف، يقول:
يا رسول الله يا من ذكره في نهار الحشر رمزاً ومقاما
فأقلني عثرتي يا سيدي في اكتسابي الذنب في خمسين عاما
يقول أنا مذنب وعمري خمسون عاماً، وأريد أن تقيلني عثرتي هذا اليوم في الروضة، وهو عليه الصلاة والسلام لا يملك ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، ولا ينجح أحداً ولا يشافي أحداً ولا يمرض أحداً، ولا يغني أحداً ولا يفقر أحداً، أتى برسالة بلغها إلى الناس وانتهى، ويقول البوصيري وهو شاعر لكنه خرافي أيضاً:
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حدوث الحادث العمم
إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً وإلا فقل يازلة القدم
يقصد الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخطأ كل الخطأ وأساء كل الإساءة: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66] {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [الفرقان:3]
ولذلك سر التوحيد تعظيم الله، وسر الشرك تعظيم غير الله، ومن أراد أن يتوسع في هذا الباب فعليه بالمجلد الأول من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، ووالله إن هذا المجلد لو كتب بماء الذهب ما أُنصف، فإن فيه رقائق وهو يرفع القلب، ويصل القلب بالباري، ويخبرك من أنت ومن هو الله، ويفصل لك بين الخالق والمخلوق، ويفتح لك أبواباً في التوحيد ما سُمعت، وما كتبها إلا ذاك الإمام من الكتاب والسنة.
فقال: {ما حق الله على العباد؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، ثم مضى برهة وقال: يا معاذ! قال: لبيك وسعديك يا رسول الله! قال: أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً} عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث كما يقول أهل العلم مسائل قد تربو على عشرين مسألة:
منها طرح الإمام المسألة على التلميذ ليفهم ما عنده ولو كان العالم فاهماً لها.
ومنها: أن من لا يعلم شيئاً يكل علمه إلى الله، ولذلك يخطئ كثير من طلبة العلم يوم يتقحمون الفتيا لئلا ينكسر جاه أحدهم، فيسأل عن مسألة، فيجيب لأنه إذا قال: لا أدري سيقول الناس: سبحان الله! درس في الشريعة، وأصول الدين، ولا يدري! وهذا خطأ فاحش، يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: [[ما أبردها على قلبي إذا سئلت مسألة لا أعرفها فقلت: لا أدري]] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل:116].
ومنها: أن الرسول عليه الصلاة والسلام أتى بالتوحيد وهي رسالة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام جميعاً وهو حق الله على العبيد كما ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد.
ومنها: أن من أتى بالتوحيد ثم أتى بذنوب فهو إلى الله؛ إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه، لكنه لا يخلد في النار، فـ أهل السنة يقولون: إن أهل الكبائر مسلمون ولا يخلدون في النار إن دخلوها، والخوارج أخرجوهم من الملة، وقد أخطئوا في ذلك، فصاحب الكبيرة نخشى عليه العذاب ونرجو له الرحمة من أرحم الراحمين، وقد يدخل النار سنوات أو مئات الأيام والأشهر فالله أعلم، هذا معتقد أهل السنة في أهل الكبائر، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي} وفي القرآن أن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} [النساء:31].
وإذا سمعتم أحاديث الكفارات في السنة فهي كما قال أهل العلم من أهل السنة: كلها للصغائر، أما الكبيرة فيشترط لها التوبة، لقوله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: {الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، والعمرة إلى العمرة ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينهن ما لم تؤت كبيرة} فأخرج هذا الاستثناء الكبيرة، ولذلك لا تكفر الكبيرة إلا بتوبة، وأما الصغائر فتكفر بما ذكر فليتنبه العبد؛ لأن بعض الناس الآن يصلون في رمضان وتجد المساجد الآن مزدحمة بالناس يصلون ويقرءون القرآن فإذا سألت بعضهم من الجهلة قالوا: لأنه كفارة ما بينه وبين رمضان الماضي، وقد ارتكب كبائر كالجبال لا يكفرها رمضان ولا يأتي عليها، فليتنبه لهذا.
وأما معاذ رضي الله عنه فشارك في اليرموك، وقاتل قتالاً شديداً، وقرأ سورة الأنفال على الناس حتى أبكاهم، وكان فصيحاً رضي الله عنه خائفاً من الله، وحضرته الوفاة في عسقلان في أرض فلسطين، وسبب ذلك أنه سأل الله أن يموت شهيداً فأتاه الطاعون {والطاعون شهادة لكل مسلم} كم صح عنه صلى الله عليه وسلم، جاءه كالدرهم في كفه فحك هذا المكان فقال له الصحابة: شافاك الله يا معاذ! قال: لا.
اللهم إنك تكبر الصغير وتبارك القليل، اللهم بارك في هذه القرحة ثم قيل له: لماذا؟ قال: كرهت الحياة وسئمت العيش.
عمره يوم توفي ثلاث وثلاثون سنة فقط، كل هذا العلم والجهاد والتضحية في ثلاث وثلاثين سنة.
عليك سلام الله وقفاً فإنني رأيت الكريم الحر ليس له عمر
ولو كان يعطى من أعمار بعض الناس أعطي والله مقل العيون، حضرته الوفاة وأتته سكرات الموت قبل صلاة الفجر، فقال لابنته: اخرجي وانظري هل طلع الفجر، فخرجت وقالت: لم يطلع، فعاد فقال: اخرجي وانظري هل طلع الفجر، قالت: طلع، قال: اللهم إني أعوذ بك من صباح إلى النار، هذا اليوم الذي يستقبله معاذ أول يوم من أيام الآخرة، {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7] وهذا أول يوم من المرحلة التي يقدم بها على عمله عند الله، ثم التفت وقال: اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الحياة لغرس الأشجار ولا لجري الأنهار ولا لرفع القصور، ولا لعمارة الدور وإنما كنت أحب الحياة لثلاث لمزاحمة العلماء بالركب في مجالس الذكر، ولمجالسة أقوام ينتقون لي أطيب الكلام كما ينتقى أطيب الثمر، وأن أعفر وجهي ساجداً لك في التراب وفي لفظ آخر في قصته وسيرته قال: بدل انتقاء أطايب الكلام كانتقاء أطايب الثمر قال: وأن أصوم الهواجر، وهي شدة الحر ثم فاضت روحه إلى مولاها وانتقل من الحياة في ثلاثة وثلاثين سنة كلها جهاد وعلم وعبادة: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].
هذه من سيرة معاذ المختصرة، ومن أراد أن يعود إليها باستفاضة فليراجع سير أعلام النبلاء المجلد الأول للذهبي فقد دبج في سيرته كلاماً أحسن من سبائك الذهب ومن عقود اللؤلؤ والمرجان.