والقضية الرابعة: الهدية للمشرك، هل يجوز أن يهدى للمشرك؟ لأن في حديث عمر رضي الله عنه أنه أرسلها إلى أخيه وكان مشركاً، قال أهل العلم: إن كان يطمع أن يسلم هذا المشرك فله ذلك؛ لأن هذا تأليفٌ لقلبه، وتحبيبٌ له في الإسلام، فأنت إذا رأيت من رجل ضال أو مشرك أوكافر أن فيه لمسات قبول، وفيه إقبال على الإسلام، فلك أن تتحفه وتهديه، ولك أن تهش وتبش في وجهه، علَّ الله يرزقه الهداية إلى الإسلام.
ذكروا في ترجمة عبد الله بن المبارك رضي الله عنه وأرضاه، قال الذهبي عنه في تذكرة الحفاظ: والله! إني لأحبه لما جعل الله فيه من الزهد والورع والجهاد، قالوا: كان له جارٌ يهودي، فكان ابن المبارك إذا اشترى لحماً بدأ باليهودي، فأعطاه قبل أن يعطي أهله، وإذا أخذ فاكهة بدأ باليهودي قبل نفسه، وإذا كسا أبناءه كسا أبناء اليهودي قبل أبنائه، فجاء بعض التجار إلى اليهودي، وقالوا: نشتري بيتك، قال: بيتي بألفي دينار، ألفٌ قيمة البيت، وأما ألفٌ فقيمة جوار عبد الله بن المبارك، فسمع عبد الله بن المبارك فتأثر من هذه الكلمة، فأعطى اليهودي ألف دينار وقال: هذا قيمة الدار ولا تبعها، ثم التفت ابن المبارك إلى القبلة، ورفع يديه، وقال: اللهم اهدِ هذا اليهودي إلى الإسلام، فأصبح الصباح وقد أتى إلى ابن المبارك، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فكانوا بأخلاقهم وبتعاملهم يدعون إلى الله عز وجل.
وبعض الناس يخلط في مبدأ الولاء والبراء بين الود وبين حسن التعامل، إذا رأى الخواجة قال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، اللهم دمره، اللهم خذه أخذ عزيز مقتدر، وبعضهم إذا رأى الخواجة كان على النقيض من ذلك، حياه وبياه، وقام يهز أكتافه بين يديه، وأين هذه الآية من آيات الله التي أخرجها لنا، وقد أتى هذا من أمريكا ولندن، فهذا لا يُرتضى وهذا لا يُرتضى.
أما الأول الذي قام أمام هذا بالعنف وبالغلظة، فهذا ليس في كتاب الله وليس في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فالله يقول لبني إسرائيل: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة:83] والناس هنا كلمة عامة، وحسن التعامل مطلوب حتى مع الكافر.
ذكر الغزالي أن رجلاً كافراً صاحب ابن مسعود، فلما فارقه إلى طريق الكوفة، قال له عبد الله بن مسعود: روفقت بالسعادة أو كلمة تشبه ذلك، فقيل لـ ابن مسعود: أتقول هذا لكافر؟! قال: سبحان الله! رافقني ساعة، والله يقول: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة:83] ففرق بين المودة وحسن التعامل، فالمودة حرام؛ لأنها من الولاء والبراء.
وعند أبي داود بسند صحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من أعطى لله، ومنع لله، وأحب لله، وأبغض لله؛ فقد استكمل الإيمان} فالمقصود أن الحب والبغض والعطاء والمنع يكون لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، أما المودة فلا تكون إلا لوجهه، فلا يواد الكافر وهذا أمر، وأما حسن التعامل فهو أمر آخر، كأن تتبسم له عله يُظْهر إقباله للإسلام، وعله يرتاح لهذا الدين وهذا التعامل، وعلَّ الله أن يهديه.
ولا يوجد نص واحد يذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم عبس وبسر في وجه المشركين أو أغلظ لهم في الكلام، بل قال الله عنه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
والمقصود أنه لا بأس بهذه الأمور تأليفاً للكافر ومنها الهدية، ولذلك أهدى صلى الله عليه وسلم في حنين لبعض الناس ممن لم يسلم بعد، أو ممن هو حديث عهدٍ بالدين، فأهدى لهم من مائة ناقة، يتألف قلوبهم عليه الصلاة والسلام.
فإذا علمت أن هذا ألفةٌ للقلب فلك أن تهديه، ولك أن تقدم له خدمات عل الله أن يهديه ويرزقه الدخول في الدين.
وبعض الناس لا يرضى ذلك فيأتي بهذا الكافر، فيبسط له البساط، ويرحب به، ويواليه، ويزوره، ويؤاكله ويشاربه، لا على مقصد الدعوة للإسلام، إنما هو معجب بالكافر لأنه أتى من أوروبا، فهذا لا ترضى طريقته، وهذا يرد عليه ويبين له أنه وهن في دينه، وهزيمة في عقيدته، وفشل في ولائه وبرائه، فعليه أن يتقي الله عز وجل، لا يوالي إلا من والى الله، ولا يحب إلا من أحب الله، ولكم أن تعودوا إلى المجلد العاشر من فتاوى ابن تيمية، وقد تكلم عن الولاء والبراء كلاماً طيباً، ومن أحسن ما تكلم به في مسألة أن الناس يوالَوْن بقدر ما فيهم من الطاعات، ويعادَوْن بقدر ما فيهم من المعصية.