فسيد القراء أبي بن كعب من الأنصار رضي الله عنه وأرضاه، في سيرته وفي سيرة هؤلاء هدى ونور بإذن الله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90] ويذكر عنه بعض المترجمين أنه مرض بالحمى ثلاثين سنة؛ لأنه سأل الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: {يا رسول الله! هل يكفر عنا ما يصيبنا من المصائب، قال: نعم.
حتى الشوكة يشاكها العبد} ومصداق هذا حديث صحيح: {ما يصيب المؤمن من هم ولا نصبٍ ولا وصبٍ ولا غمٍ ولا حزنٍ ولا مرض حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه} فسأل الله أبي بن كعب رضي الله عنه وأرضاه أن يكفر عنه بهذه الحمى، فمكث ثلاثين سنة، لكن ما عطلته عن حجٍ ولا عمرة ولا عن فريضة ولا جهاد.
يقول له صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث في صحيح مسلم: {يا أبي! إن الله أمرني أن أقرأ عليك: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ} [البينة:1]} فالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى من فوق سبع سموات يسمي أُبياً باسمه! وهو صحابي من الصحابة، فأي شرف لهذا الإنسان! تصور بنفسك أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى سماك في الملأ الأعلى، لكن أُبياً سماه الله، قال: {يا رسول الله! أوسماني الله باسمي في الملأ الأعلى؟ قال: إي والذي نفسي بيده، فدمعت عينا أبي وبكى وقرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم سورة البينة}.
وفي صحيح مسلم أيضاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يسأل أبياً ليمتحن قربه من القرآن، وكثرة محفوظاته ومعرفته وفطنته، فالذي علمه هو صلى الله عليه وسلم، قال: {يا أبا المنذر! أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] فأخذ صلى الله عليه وسلم كفه وضرب في صدر أبي وقال: ليهنك العلم أبا المنذر} إيه والله هذا العلم الذي يغبط عليه، هذا العلم النافع الذي لم يُشَبْ ولم يَخلَق، ولم يمزج، فكان سيد القراء رضي الله عنه وأرضاه.
صلى الرسول صلى الله عليه وسلم -وهذا دليلٌ لأهل الفقه من الحنابلة وغيرهم بالفتح على الإمام في الصلاة إذا أخطأ أو تجاوز آية- صلى وتجاوز آية، وهو صلى الله عليه وسلم ما ضن بشيءٍ من القرآن، وما فاته شيءٌ منه، بل نشهد الله عز وجل، ثم نشهد ملائكته والناس أنه قد أدى الرسالة كاملةً، ما نقص حرفاً واحداً وما ترك خيراً إلا دلنا عليه، ولا شراً ولا سوء إلا حذرنا منه، فتجاوز عليه الصلاة والسلام آية، فلما سلم، قال الناس: {يا رسول الله! هل نسخت تلك الآية؟ قال: لا.
قالوا: ما قرأتها يا رسول الله، قال: أين أبا المنذر؟ -فالرسول صلى الله عليه وسلم يسأل أهل التخصصات- قال: لبيك يا رسول الله وسعديك! قال: أكما يقولون؟ قال: نعم.
قال: لماذا لم تفتح عليَّ في الصلاة، قال: ظننت أنها نسخت}
فالرسول صلى الله عليه وسلم بلَّغ القرآن كاملاً.
لكن الشاهد: كيف عاش الصحابة مع القرآن؟ وكيف تأثروا بالقرآن؟ فعند ابن أبي حاتم في تفسيره، في سورة الغاشية، أن الرسول عليه الصلاة والسلام مر بامرأة تقرأ في جنح الليل: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] فوضع صلى الله عليه وسلم رأسه على صائر الباب وهي تردد ولا تدري أنه يستمع لقراءتها، وتقول: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] وتبكي، فأخذ صلى الله عليه وسلم يبكي ويقول: {نعم أتاني نعم أتاني} حديث الغاشية وحديث يوم القيامة وهو حديث عجيب، ورهيب، ومرعب، يقول الله: {هل أتاك حديث الغاشية} [الغاشية:1] فيجيب ويقول: {نعم أتاني}.