وكان فضل الصحابة كما أسلفت على قدر قربهم من القرآن، وكانوا أكثر الناس تأثراً بالقرآن وحياةً مع القرآن، ذكر ابن كثير في البداية والنهاية في ترجمة عمر أنه مرض من آية حتى عاده الصحابة منها، وفي بعض الروايات أن هذه الآية هي قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات:24 - 26] فكتاب الله عز وجل مطالبه عظيمة، ولا يمكن أن يحب العبد الله عز وجل حتى يحب القرآن، ولذلك قال ابن مسعود: [[لا يسأل أحدكم عن حبه لله ولكن ليسأل نفسه عن حبه للقرآن]] فأنت كلما أحببت القرآن، كلما أحببت الله، وبقدر حبك للقرآن تكون محبتك لله تعالى.
وفي الصحيح أن أسيد بن حضير رضي الله وأرضاه، وهو محضر الكتائب وأحد الأعلام من بني عبد الأشهل، قام يقرأ سورة الكهف، فأخذت فرسه تجول في رباطها وفي آخيتها، فقطع صلاته وأخذ ابنه يحيى؛ لأن الفرس كادت أن تطأه بحوافرها ثم نظر فإذا ظلة على رأسه، فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {وقد رأيتها؟ قال: نعم.
قال: والذي نفسي بيده، إنها الملائكة نزلت لسماع قراءتك، ولو قرأت لأصبحت الملائكة يراها الناس لا تتوارى عنهم}.
وهذا حديث في الصحيح بنحو هذا اللفظ.
ليل الصحابة كان مع القرآن ولما ذهبت ليالينا بغير القرآن في السمر الذي لا ينفع، والقيل والقال، وفي الجدل المقيت الذي لا يقربنا من الله، والذي لا ينفعنا في الدنيا ولا في الآخرة إلا من رحم الله، وهذا عند الأخيار، أما عند الأشرار فنعوذ بالله من ذلك، فهي ليالٍ حمراء فلا تسأل عنها وليالي معصية، يشهدون الله على فجورهم وخبثهم وغلتهم وقلتهم، ثم يمضي عليهم الليل الذي كان من أسعد الأوقات عند السلف.
وقليلٌ من يعيش منا مع القرآن، وقليل منا من يتأثر بالقرآن ويحيي ليله بتلاوته.
فكان عليه الصلاة والسلام لا يفوته ورده من الليل مع القرآن، وقد سئلت عائشة عن قراءته صلى الله عليه وسلم قالت: {ربما أسر وربما جهر} كل ذلك يفعله عليه الصلاة والسلام.
وفي تلك الليلة التي رواها ابن عباس وهي في صحيح البخاري قال: {بت عند خالتي ميمونة فأتى عليه الصلاة والسلام فدخل البيت بعد صلاة العشاء، ونمت في عرض الوسادة، قال: نام الغُليم؟ قالت: نام، فأتى صلى الله عليه وسلم إلى الفراش فدعا وذكر الله ثم نام، قال: حتى سمعت غطيطه، وعند البخاري خطيطه، والخطيطة صوت يحدثه النائم إذا استغرق في النوم -ثم استيقظ صلى الله عليه وسلم -وما نام ابن عباس - فلما استيقظ عليه الصلاة والسلام أخذ يعرك النوم من عينه ويقول: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191] حتى أكمل العشر الآيات، ثم قام عليه الصلاة والسلام فخرج خارج البيت فلحقه ابن عباس بماء في إناء، ووضعه عند الباب، وعاد صلى الله عليه وسلم وقال: من وضع لي هذا الماء؟ -يسائل نفسه- وابن عباس يحفظ الكلمات التي قيلت في تلك الليلة- ثم قال عليه الصلاة والسلام: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل} فكانت هذه أبرك ليلة من ليالي ابن عباس رضي الله عنه وعن أبيه وأرضاهما.
وأتى صلى الله عليه وسلم فاستقبل القبلة فقال: {اللهم لك الحمد أنت رب السموات والأرض وما فيهن، ولك الحمد أنت نور السموات والأرض وما فيهن، ولك الحمد أنت ملك الأرض والسموات، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك الحق، وقولك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت} ثم قام يصلي عليه الصلاة والسلام فأتى ابن عباس يصلي معه صلى الله عليه وسلم في ليلة طويلة، وكان يقوم صلى الله عليه وسلم بالقرآن طويلاً.
يقول ابن مسعود: قام صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي فقمت معه فقرأ حتى هممت بأمر سوء، قالوا: ما هممت به؟ قال: هممت أن أجلس وأن أدعه.
وقال حذيفة: {صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فافتتح سورة البقرة، قلت: يركع عند المائة، فقرأ، قلت: يختمها ثم يركع، فقرأ وافتتح النساء فقرأها فقلت: يختمها فافتتح سورة آل عمران، فقرأها، إذا مر بآية تسبيح سبح، أو آية رحمة سأل أو آية عذاب تعوذ} فهذه صلاته صلى الله عليه وسلم.