أولها: حديث ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه، ويا لـ ابن عباس، ويا لثمرة الجهد المتواصل منه صلى الله عليه وسلم في تربية ابن عباس، يوم أن فقهه في دين الله، فأخرجه مشكاة تبعث هداها وسناها ونورها، ركب ابن عباس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو رديفه على حمار، والرسول صلى الله عليه وسلم يركب الحمار، لكنه ركب كواكب النصر والفلاح والمجد، فيختلسها صلى الله عليه وسلم فرصة، ويقول: {يا غلام! فيقول ابن عباس: لبيك وسعديك يا رسول الله، فيقول: إني أعلمك كلمات -لكنها كلمات نور وهداية وكلمات بشر وخير وسعادة في الدنيا والآخرة، ليست طويلة ولكنها عميقة أصيلة- احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرَّف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف} رواه الترمذي وأحمد، وزاد {واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً} ورواه أيضاً النسائي، ورواه ابن ماجة بلفظ {يا ابن عباس! احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك} من هذا المنطلق ومن هذا الحديث، نأخذ وصية في التوحيد، ونعرضه على الذين يقولون: لا حاجة الآن أن نتدارس التوحيد، فلقد وعى الناس التوحيد، فما هناك حاجة إلى أن يعرفوا مسائل التوحيد، ثكلتك أمك يا بعير! وهل المسألة إلا مسألة توحيد، وهل الدعوة إلا دعوة عقيدة، وهل الرسالة إلا رسالة لا إله إلا الله، فأين أنت من هذا؟!
إن الرسول عليه الصلاة والسلام -كما قلنا- كان يعرف استعدادات الصحابة، فكان يضع كل إنسان في موضعه، لا يضع الأديب في موضع المفتي، ولا المفتي في موضع القائد، ولا القائد في موضع الزاهد، ولا الزاهد في موضع الجندي، بل يضع كل واحد في مكانه الذي أهله الله له.
أرأيتم أين وضع خالداً يوم أن كان سيفاً من سيوف الله وضعه على الجبهات، يكسر رءوس الملاحدة بسيف الله، وأتى بـ حسان يوم كان أديباً ووضعه عند المنبر؛ ليرسل القوافي الفصيحة على المعاندين ليرغم أنوفهم في التراب، وأتى بـ زيد بن ثابت يوم كان فرضياً يبرم مسائل الفرائض فأعطاه التقسيم والتوزيع والميراث، وأتى بـ معاذ يوم كان عالماً في الحلال والحرام، فأعطاه موضوع الفقه، هكذا كان يفعل صلى الله عليه وسلم.