رضي الله عن معاذ بن جبل وأرضاه، الشاب الذي وعى التوحيد، وأرسل صوته بالتوحيد إلى الجند في جنوب اليمن، وإلى عسقلان في جنوب فلسطين، ليكون شهيداً هناك، فسبحان الله! أي أمة كنا يوم كانت اهتماماتنا بلا إله إلا الله؟! أي أمة كنا يوم كانت رسالتنا رفع لا إله إلا الله؟! إن الذين يعيشون على مطامع الشهوات والبطون، لا يهتمون بلا إله إلا الله في أربع وعشرين ساعة، بل في الأسبوع، بل في السنة، إنهم يخلفون أثرهم، وانتسابهم إلى معاذ رضي الله عنه وأرضاه:
بمعابد الإفرنج كان أذاننا قبل الكتائب يفتح الأمصارا
لم تنس أفريقيا ولا صحراؤها سجداتنا والأرض تقذف نارا
أرواحنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا
{قال صلى الله عليه وسلم لـ معاذ، وهو راكب معه على حمار: يا معاذ! قال: لبيك وسعديك يا رسول الله، قال: أتدري ما حق الله على العباد؟ فقال -وانظر إلى الأدب والحياء والتوقير والإجلال-: الله ورسوله أعلم.
قال: حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، ثم قال: أتدري يا معاذ ما حق العباد على الله؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: حق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً} متفق عليه، ورواه أحمد في المسند بلفظ آخر.
وكان هذا الحديث وصية ونصيحة من نصائح التوحيد التي أرسلها صلى الله عليه وسلم لـ معاذ، أتدرون متى بلغها الناصح الأمين معاذ؟
على فراش الموت، يوم أن حضرته الوفاة وهو في عسقلان يرفع لا إله إلا الله في الشام، ويطارد كلاب البشرية الذين يحاربون لا إله إلا الله، فاندلعت في كفه بثرة من طاعون، ولكنه يريد الموت، يريد لقاء الله والناس يريدون الحياة، فقالوا: شافاك الله، عافاك الله، لا ضير عليك، فيقول: [[لا والله لقد أحببت لقاء الله، والله لو كانت روحي في كفي لأطلقتها، اللهم إنك تكثر القليل، وتكبر الصغير، اللهم فكبرها ونمها وكثرها]] يعني: البثرة، فاندفعت في جسمه، وأتاه اليقين على فراش الموت، وحق الحق لأهل الحق، وبقي اليقين لأهل اليقين، وخسئ الذين غدروا مع لا إله إلا الله، وتُبِّر الذين فجروا مع عقيدة لا إله إلا الله، فماذا قال في سكرات الموت؟ هل تأسف على منصبه الذي كان يشغله؟! هل بكى على ماله وولده؟! هل ندم على قصوره؟! لا والله، فما كان عنده من الفلل والقصور من شيء، إنما هي قصور من دين وعمل صالح ونوافل وعبادة، وفلل من يقين وخير وحسن خلق، وأشجار من معاملة طيبة ودعوة ناجحة، بكى وهو في فراش الموت، وقال: [[مرحباً بالموت حبيباً جاء على فاقة، لا أفلح من ندم، اللهم إنك تعلم أني لم أحب الحياة لغرس الأشجار، ولا لجري الأنهار، ولا لرفع القصور، ولا لعمارة الدور، ولكنني كنت أحب الحياة -فاسمعوا يا أبناء الحياة- لأعفر وجهي ساجداً لك في الأرض، ولأزاحم العلماء بالركب في حلق الذكر، ولأدعوك وأتملقك في الليل الداجي]].
فسلام عليك يا معاذ بن جبل يوم أسلمت، وسلام عليك يوم دعوت إلى الله، وسلام عليك يوم نصحت ويوم مت ويوم تبعث حياً.