حديث في بيان حلم النبي صلى الله عليه وسلم وصبره

ثم ينتقل بنا البخاري في روضة أخرى، يقول أبو الحسن الندوي وهو يتكلم عن البخاري:

يزيدك وجهه حسناً إذا ما زدته نظرا

كلما نظرت في صحيح البخاري نقلك من روضة إلى روضة، فكأنه يعطيك العلم مجاناً وهو الواقع، قال: عن أنس بن مالك قال: {كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه بردٌ نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي، فجبذه -يستخدم جذب وجبذ كذا في العربية- بردائه جبذة شديدة، قال أنس: فنظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم وقد أثرت فيها حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد! أعطني من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه، فضحك، ثم أمر له بعطاء}.

وبيان الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يمشي في سكة من سكك المدينة وعليه بردٌ، والبرد أشبه شيء بالفرو الغليظ، بردٌ نجراني غليظ الحاشية، أي: حاشيته ليست خفيفة لطيفة، فأتى أعرابي، وانظر ماذا يفعل بالرسول صلى الله عليه وسلم! فاقترب من الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد جاء من البادية، لا عنده أدبٌ، ولا علمٌ، ولا فهمٌ، فأتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فأخذ رداءه، ثم جبذه جبذة شديدة، يجبذ معلم الخلق صلى الله عليه وسلم، ثم ليته سكت، أو قال: عفواً أو سامحني، بل قال: أعطني من مال الله الذي عندك، وفي بعض الروايات: لا من مال أبيك ولا من مال أمك.

ما هو الداعي لهذا الكلام؟ ولماذا هذا التصرف؟ إنه من قلة معرفة قدره صلى الله عليه وسلم، وإلا لو أتى وسلم وتبسم، وقال: يا رسول الله! أعطني من مال الله، أعطني أعطاك الله؛ لكان خيراً له، لكن ضربٌ ومعاندة وكلام غليظ، ولو كان غير الرسول صلى الله عليه وسلم، لقال: خذوه فغلوه، ثم الجحيم صلوه، لا نراه ولا يرى الشمس أبداً، ولا رئيت إلا بطون أقدامه في الجو.

فلما جبذه، التفت إليه فضحك صلى الله عليه وسلم، وكذلك ما التفت إليه وهو ساكت، التفت إليه وهو يضحك أي مرب هذا المربي؟! وأي مرسل هذا المرسل؟! وأي معلم هذا المعلم عليه أفضل الصلاة والسلام؟ إن الذي لا يتعلم من سيرته سوف يبقى حقيراً صغيراً في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ولن يكون عنده من الفهم ولا من المعرفة {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} [البقرة:19] الأعمى هو الذي لم يتجه إلى سيرته ولا إلى سنته، والأصم هو الذي ما سمع هديه ولا أحاديثه ولا عمل بها؛ فليفهم هذا.

قال: فأمر له صلى الله عليه وسلم بعطاء، ولو أنه أدبه، أو أنكر عليه، أو شدد عليه لذهب داعي السوء إلى قومه، وقال: احذروا لا تسلموا، أنا ذهبت إلى هذا الرسول ففعل بي كذا وكذا، ولكن عاد إلى قومه فدعاهم إلى الإسلام، فأسلموا جميعاً.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015