وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: {أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هلكت! وقعت على امرأتي في رمضان، قال: أعتق رقبة، قال: لا أستطيع، قال: فصم شهرين متتابعين، قال: لا أستطيع، قال: أطعم ستين مسكيناً، قال: لا أجد، فأتي بعرق فيه تمر -قال إبراهيم: العرق: المكتل، والمكتل مثل الزنبيل- فقال: أين السائل؟ قال: نعم.
يا رسول الله! قال: اذهب فتصدق بهذا، قال: على أفقر منا؟ والله ما بين لابتيها بيتٌ أفقر منا، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، قال: فأنتم إذن}.
ملخص القصة: أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان جالساً مع أصحابه في منتدى عام، فأتى رجل بوجهه وفيه الأسف واللوعة والحرقة من أمر تم عليه، وهو أنه واقع امرأته في شهر رمضان، وهو يعلم أنه ذنب، لكنه لا يدري بالكفارة، فأتى وقال: يا رسول الله! هلكت، وهذا بيان عام لا بد له من تفسير؛ لأن من تكلم بمجمل من العلم أو بشيء عام فلا بد أن يفسر ويفصل، والسائل إذا سأل سؤالاً عاماً فعلى العالم أن يسأله عن حيثيات السؤال، وعن جزئياته وقرائنه، وعن سياقاته وظروفه التي اكتنفت به، ليجيب على بصيرة.
أما أن يقول: هلكت، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: لا، ما هلكت غفر الله لك، فالقصة لم تعرض حتى الآن، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: وما أهلكك؟ في بعض الروايات قال: وقعت على أهلي في رمضان، أي: في نهار رمضان ليس في الليل؛ لأن هذا معروفٌ عندهم، ولو أنه كان ممنوعاً في أول الإسلام لكنه نسخ.
قوله: والله ما بين لابتيها اللابة هي: الحرة من حرتي المدينة، والمدينة بين لابتين، تكتنف تلك المدينة الطيبة الطاهرة التي يرقد في ثراها الرسول عليه الصلاة والسلام، وهي والله تحب لمحبة من جلس في تلك البقاع، ومن رقد في ذاك الثرى.
أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا
ولذلك نحن نحب جبل أحد، ونشهد الله أننا نحبه، وجبل أحد ليس فيه تفاح ولا موز ولا برتقال، وليس فيه نهر زلال، وليس فيه خلايا عسل، وإنما هو جبل أجرد أمرد أسود، لكننا نحبه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الصحيح: {أحد جبل يحبنا ونحبه} فنحن لذلك نحبه.
وسيد قطب له في الظلال لمعان، لما مر بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {أحد جبلٌ يحبنا ونحبه وهو من جبال الجنة} قال: انظر إلى الأنس بين المؤمن والكائنات لما اتجهت إلى الله عز وجل، وبعض البقاع يُغضب عليها لبغض أصحابها، ومن سكن فيها، ومن جاورها، والسعادة تحل في البلد الذي يحل فيه الصالحون والأخيار، يقول أحمد شوقي:
وإذا الكريم أتى مزوراً بلدة سال النضار بها وقام الماء
النضار: الزهر، وقام الماء: أي: أصبح له كيان في أمور أخرى.
قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، فقال: {فأنتم إذن} فذهب الرجل لا كفارة عليه، ولا عتق، ولا صيام، ولا إطعام ستين مسكيناً، وعاد يحمل تمراً إلى أهله، وهذا من يسر التشريع، ومن يسر هدايته صلى الله عليه وسلم، ومن شريعته الكاملة الجميلة العميقة عليه أفضل الصلاة والسلام.