وأتى عبد الله بن جحش أول من سمي في الإسلام أميراً وهو شاب، فوقف قبل المعركة، وقال: يا رب! أسألك أن تواجه بيني وبين كافر شديد حرده، قوي بأسه فيك، فيبقر بطني، ويجدع أنفي، ويقطع أذني، ويفقأ عيني، فإذا لقيتك يوم القيامة قلت: يا عبد الله! لم فُعِلَ بك هذا؟ قلت: فيك يا رب! فلما انتهت المعركة وجد وهو مقتول على تلك الصفة، قال سعيد بن المسيب وهو من رجال السند: نسأل الله أن يوفي له ما سأل وقلنا: آمين.
ووقف طلحة بن عبيد الله يقاتل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ضرب في كل مكان حتى يقول: والله لقد ضربت في كل مكان يوم أحد حتى في فرجي، وشلت يده اليمنى، وذاك رجل بايع الله، قال أبو بكر رضي الله عنه: [[يوم أحد كله لـ طلحة بن عبيد الله]] طلحة ذو الجود رضي الله عنه.
أما الرسول عليه الصلاة والسلام فإنه من أول المعركة وهو يقاتل في سبيل الله، وقد أثخن بالجراح صلى الله عليه وسلم، وضرب على مغفره حلقتان من حلق المغفر في رأسه، وكسرت رباعيته، بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام، وأتى عليه الصلاة والسلام حتى ما استطاع أن يعلو على صخرة حتى جلس له طلحة بن عبيد الله فارتفع حتى علا على الصخرة، وقد أنهك عليه الصلاة والسلام من كثرة الضرب وكثرة ما قاتل، وفر الناس في آخر المعركة وما ثبت معه إلا سبعة.
وأما الرماة الذين قال لهم صلى الله عليه وسلم: ابقوا في هذا المكان، فإنهم لما رأوا الغنائم ورأوا كفار قريش قد فروا في أول المعركة ظنوا أن المعركة قد صفيت للرسول صلى الله عليه وسلم، فنزلوا فوقف أمامهم عبد الله بن جبير أميرهم المجاهد رضي الله عنه وقال: أسألكم بالله لا تعصوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال: لو رأيتم الطير تتخطفنا فلا تنزلوا، فعصوا أمره ونزلوا، وبقي وحده، فلما نزلوا رأى خالد بن الوليد الصاعقة وسيف الله المسلول، وكان يقود الخيالة في قريش ولم يكن قد أسلم ذاك اليوم، فرأى أن الرماة قد نزلوا من الجبل، فأتى من خلف الجبل وطلع على ظهر الجبل هو والخيالة من قريش، وأخذ عبد الله بن جبير الأمير يدافعهم، فاجتمعوا عليه فقتلوه، والتفت الرماة وإذا مواقعهم قد احتلها خالد بن الوليد والخيالة معه، وأصبح المسلمون شذر مذر، حتى فرَّ كثير منهم ودخلوا المدينة وأصبح صلى الله عليه وسلم مع سبعة يصارعون الأحداث، ويقفون أمام الإعصار في معترك لا يعلمه إلا الله عز وجل.
ثم عاد الناس في آخر المعركة واجتمع الصحابة بعد ما فر بعضهم -غفر الله لهم فرارهم- حول الرسول صلى الله عليه وسلم وقد ظهر الجرح فيه صلى الله عليه وسلم ودخلت حلقات المغفر في رأسه، فأراد أبو بكر إخراج حلق المغفر، فقال أبو عبيدة لـ أبي بكر: أسألك بالله أن تترك ذلك لي، فأخذ الحلقة الأولى بثنيته، فسقطت ثنية أبي عبيدة الأولى، ثم أخذ الحلقة الثانية بنيته الأخرى فسقطت، فما رئني رجل أهتم -أي: ساقط الثنيتين- أجمل من أبي عبيدة؛ لأنها سقطت في سبيل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ثم جاءوا بماء لرسول الله صلى الله عليه وسلم فغسلوا جراحه.
ولما قتل مصعب وكان يشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصاح ابن قمئة بين الناس أن محمداً قد قتل، فلما سمع بعض الصحابة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قتل سقطت سيوفهم من أيديهم، وجلسوا على الأرض، فمر بهم أحد الصحابة -قيل: أنس بن النضر، وقيل: غيره- وقال: مالكم؟ قالوا: قتل عليه الصلاة والسلام، قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ قموموا قوموا على ما مات عليه، ثم قاتل حتى قتل.
وقد كانت الشائعة خطأ، فإن مصعباً هو الذي قتل رضي الله عنه.
مصعب الذي دخل في الإسلام وهو أغنى شاب من شباب قريش، فلما أسلم قالت له أمه: إما أن ترجع عن دينك فتبقى في النعيم، وإلا فوالله لأسلبن عنك كل شيء، قال: والله لأسلمن، فسلبت عنه كل شيء حتى ما وجد من اللحاف إلا شملة، ورآه الرسول صلى الله عليه وسلم وقد تغير لونه وتغيرت ملابسه، فلما رآه عليه الصلاة والسلام دمعت عيناه، وقال للصحابة: هل تعلمون شاباً كان أحسن من هذا الشاب وأنعم؟ قالوا: لا.
قال: لقد كان يمر في الطريق من طرق مكة، فيجد الناس ريح المسك منه، وترك ذلك كله من أجل الله فعوضه الله خيراً منه، أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
فلما هاجر كان سفير الإسلام، واستفاقت المدينة على صباح جديد من دعوة مصعب بن عمير سفير الإسلام إلى الأنصار، فهو الذي علم القرآن أبناء الأنصار، وترك بهرج الدنيا وزينتها وأقبل على الله، فقتل يوم أحد، فأشيع في الناس أنه الرسول صلى الله عليه وسلم فخارت قوى كثير من الناس، وألقوا بالسيوف، فأنزل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144] وقال سبحانه: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:146].
وكان من أحسن الكلمات ومن أحر العبارات التي قالها صلى الله عليه وسلم في تلك الموقعة: {قفوا ورائي لأثني على ربي تبارك وتعالى} بعد المعركة، بعد أن ما قتل سبعون من أصحابه صلى الله عليه وسلم ومن أقاربه، يقول: {قفوا ورائي لأثني على ربي سُبحَانَهُ وَتَعَالَى} فوقف الصحابة فأثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الله تبارك وتعالى، وحمده بمحامد، وبجله بتبجيلات.
وقبل أن ينتهي صلى الله عليه وسلم من هذا الثناء، إذا بمجرم من المجرمين وبكافر من الكافرين اسمه أبي بن خلف، ما شارك في المعركة، علف فرسه بالحنطة شهراً كاملاً وشحذ سيفه بالسم، وكان يقول: أقتل بهذا السيف محمداً -يعني به الرسول صلى الله عليه وسلم- فلما أتت معركة أحد أخبروا الرسول صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله! سمعنا أن أبي بن خلف يقول: إنه سيقتلك، قال: بل أنا أقتله إن شاء الله، وكان أبي بن خلف من أشجع الناس، ومن أقوى الناس قلباً، فلما أتت المعركة لم يشارك فيها وبقي حتى انتهى القتال، وحتى أثخن صلى الله عليه وسلم بالجراح وتعب، فأتى بفرسه عامداً قاصداً للرسول عليه الصلاة والسلام، وكان أبي بن خلف قد لبس درعاً تحت ثيابه إلا موضع درهم عند ترقوته.
وسل سيفه يريد أن يقترب من الرسول صلى الله عليه وسلم، فقام المهاجرون والأنصار بسيوفهم، فأشار إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن اتركوه، وطلب عليه الصلاة والسلام أن يناولوه حربة، فناولوه حربة فهزها حتى تمكنت من يده، ثم أرسلها {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] فتركت كل مكان في جسمه لأنه مدرع ومصفح، وأتت إلى الترقوة فوقعت فيها فوخزتها وخزة بسيطة كوخز الشوكة، فوقع صريعاً من على ظهر فرسه إلى أقدام فرسه، فأتى الكفار من المشركين يسحبونه ويقولون: ما عليك بأس، ما أصابك بأس، فحلف باللات والعزى لو أن ما به أصاب أهل ذي المجاز لماتوا عن بكرة أبيهم، فسحبوه يجرجروه وهو يخور كالثور، فمات إلى النار، وسوف يلقى غضب الملك الجبار سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.