ثم أتى عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري وقد بايع الله، ووصى ابنه جابراً في بناته خيراً، فأتى المعركة فقاتل حتى قتل، قال جابر: أتيت إلى أبي وقد قتل وهو بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجى والثوب على وجهه، فكنت أرفع الثوب وأبكي والناس ينهونني أن أبكي والرسول صلى الله عليه وسلم لا ينهاني، فيقول عليه الصلاة والسلام لـ جابر: يا جابر! أتدري أين أبوك؟ قلت: لا.
قال: في الفردوس الأعلى، ثم قال: يا جابر! أتدري ماذا فعل الله بأبيك؟ قلت: لا.
والله يا رسول الله، قال: والذي نفسي بيده لقد كلمه هو وإخوانه من الشهداء في أحد بلا ترجمان، فقال: تمنوا عليّ، قالوا: نتمنى أن تعيدنا إلى الدنيا فنقتل فيك ثانية؛ لأنه ما من أحد يموت فيدخل الجنة إلا كره أن يعوده لما يرى من الجنة ونعيمها، إلا الشهيد يريد أن يعود إلى الدنيا فيقتل مراراً، ولذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة في البخاري: {والله لولا رجال من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا، ولا أجد ما أحملهم عليه، ما تخلفت خلف سرية تغدو قط، ولوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل} فقال الله لهم: تمنوا، قالوا: نتمنى أن تعيدنا إلى الدنيا فنقتل فيك ثانية، قال: إني كتبت على نفسي أنهم إليها لا يرجعون، لكن تمنوا: قالوا: نتمنى أن ترضى عنا فإنا قد رضينا عنك، قال: فأني أحل عليكم رضواني لا أسخط عليكم أبداً، فجعل الله أرواحهم في حواصل طير خضر، ترد الجنة فتأكل من أشجارها، وتشرب من أنهارها، وتأوي إلى قناديل في العرش حتى يرث الله الأرض ومن عليها، أنزل الله مصداق ذلك: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:169 - 171].