وانتهت المعركة ومر الرسول صلى الله عليه وسلم، والتفت فوجد الشهداء صرعى، وكأن لسان حالهم يقول:
إن كان سركم ما قال حاسدنا فما لجرح إذا أرضاكمُ ألمُ
فوقف صلى الله عليه وسلم وألقى كلمته الخالدة ومنها: {أنا شهيد عليكم يوم القيامة أنكم شهداء} ثم أمر بهم أن يكفنوا في ثيابهم وألا يغسلوا وأن يدفنوا، ولم يصلِّ عليهم صلى الله عليه وسلم، فأتوا يكفنون مصعباً، فما وجدوا إلا نمرة -قطعة قماش ثوب صغير- إذا غطوا رأسه بدت رجلاه، وإذا غطوا رجليه بدا رأسه، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغطوا بها رأسه وأن يجعلوا على رجليه من الإذخر، لكنه سيجلس إن شاء الله على أرائك عند الملك سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وعلى فرش من إستبرق، وفي خير عميم عند الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى من نور وحبور.
وأتوا إلى حمزة فوجدوه ممثلاً به، فما وجدوا ما يغطوه إلا شيئاً يسيراً؛ لأنهم تركوا الدنيا وأعرضوا عنها وطلبوا ما عند الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الإبل قد توجهت بالشهداء إلى المدينة، فنادى: {ردوا الشهداء وادفنوهم في مصارعهم فإنها تشهد لهم} أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فنادوا في الجمال وقد أوشكت تدخل المدينة، وعادت محملة والأسى واللوعة يعلو قلوب كثير من الناس، والبكاء يرتفع، والرسول صلى الله عليه وسلم يهدئ من روع الناس، ويدخل السكينة بكلماته الباردة على القلوب، فعادوا فدفنوهم في أماكنهم، ودفنوا حمزة هناك ومعه بقية السبعين.
قال جابر: دفن مع آخر فلم تطب نفسي بذلك، فنقلته بعد ست وأربعين سنة، فوالله ما تغير منه شيء إلا شيئاً في أذنه من طين، من خرم جرح في أذنه من المعركة قال: فحملته وما تغير منه شيء وإن ريحه ريح المسك، بعد ست وأربعين سنة، وأنزلوا في منازلهم رضي الله عنهم.
أما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد عاد متوجهاً إلى المدينة عليه السكينة والوقار؛ قال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:165 - 166] توجه عليه الصلاة والسلام وسمع البكاء في بعض دور الأنصار، ولكنه لم يجد من يبكي على حمزة، فقال: {لكن حمزة لا بواكي له} فتأثر الأنصار وأرادوا أن يشاركوا الرسول صلى الله عليه وسلم حتى في البكاء على قريبه وعمه.
وإن أولى الموالي أن تواليه عند السرور الذي واساك في الحزن
إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا من كان يألفهم في الموطن الخشن
فأمر سعد بن معاذ نساء بني عبد الأشهل أن يبكين على حمزة.