ومن وسائله في إبلاغ الدعوة: اللقاء مع الناس، ولقاؤه مع الناس على ثلاث طوائف:
التقى مع العلماء، والتقى مع السلاطين، والتقى مع عامة الناس.
فأما العلماء: فكان يلتقي معهم ويخرج وهو أذكى وأقوى من في المجلس، وقد جُمع له قاضي قضاة الحنابلة في الشام، وعالم الشافعية ابن الزملكاني، وعالم المالكية الأخنائي، وعالم الأحناف؛ فاجتمعوا في المجلس، وبدأ كل واحد يتكلم، وابن تيمية ساكت، فلما انتهى الأربعة، عاد ابن تيمية يعيد الشريط من أوله، فقال للمالكي: أما أنت فتقول كذا وكذا، وقد أخطأت في كذا وكذا، وفي كتابكم كذا خطأ كذا حتى انبهر الناس ثم أتى إلى الحنفي وقال: أخطأت في كذا وكذا وكذا ثم أتى إلى الشافعي، ثم الحنبلي -وهو في الأصول حنبلي- وفي الأخير كان الناس يهللون ويكبرون ويقولون: {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ} [الأعراف:119].
وأما مع السلاطين: فإنه -كما أسلفت لكم- دخل على سلطان الشام وتهدده مرات كثيرة بلا سيف، ولا رمح، ولا جيش، ولا جند، ولا شيء، لكن عنده قلب كبير؛ قلبٌ فيه نور وعلم وهداية، وقلبٌ فيه نصيحة وشجاعة ويتحدث ذاك، وعنده الجنود والحرس والجيوش، وهو يرتجف وابن تيمية صامد كالجبل، حتى اضطره إلى أن ينازل التتر وكلم قائد المغول فارتجف من شيخ الإسلام، وقال له -وهو لا زال كافراً-: ادع لنا.
فرفع ابن تيمية يديه وقال: اللهم إن كان هذا العبد يريد ما عندك فوفقه بهدايتك، وإن كان غير ذلك فاعم بصره واطمس بصيرته وذاك يقول: آمين آمين ما يدري ما يقول.
أما الطائفة الثالثة فهم عامية الناس:
ولما دخل السجن -لا أدخلكم الله السجن- حوله إلى روضة من رياض الجنة قرآن وحديث صحيح البخاري وصحيح مسلم، فأصبح الناس في السجن ملتحين، والسواك في أفواههم، ويسبحون، ويهللون، فقاد السجن حتى أحياه وأصبح روضة وقد تحدث ابن القيم عن موقفه في السجن، وكذلك صاحب العقود الدرية ابن عبد الهادي.
أما في المسجد: فكان يجلس يوم الجمعة بعد الفجر يفسر القرآن، وقيل عنه: أنه بقي في تفسير سورة نوح خمس عشرة سنة، كان يفسر كل جمعة، وما كان ينتهي من المجلس حتى يرتفع النهار، وحضر مجلسه بعض أهل العلم، وقالوا: لما حضرت المجلس أغلق ابن تيمية عينيه، ثم بدأ يندفع في الكلام، فوالله لكأن القرآن أمام عينيه، وكأن الحديث أمام عينيه، يأخذ منه ما شاء ويترك ما شاء، ووالله لقد استفاد من في المجلس؛ من الصوفية، والفلاسفة، ومن أهل أصول الفقه، والفقهاء، وأهل العقيدة، حتى انبهر الناس، ثم فتح عينه وختم المجلس، ثم اعتذر إلى الجلوس، وسلم عليهم يميناً ويساراً.
وأما في السوق: فكان يخرج إذا ارتفع النهار ومعه تلاميذه ومحبوه، فيأتي إلى أصحاب المعاصي فيؤدبهم، ويأتي إلى من يشهد الزور ومعه عصا ويأمر تلاميذه أن يجلدوه وهو يعد، حتى ينتهي السوق وقد حاسب المخالفين، ثم يعود إلى هناك حتى أصبح يحرك التاريخ.
أما في المعركة: فقد أسلفت لكم عن شجاعته في المعركة، وبذله وعطائه.