نزل عليه جبريل في صورة إنسان حتى لا يخاف، فسلم عليه وضمه ثلاث ضمات، ضمه في المرة الأولى حتى بلغ منه الجهد، حتى آنسه قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] فضمة الثانية، وقال: اقرأ، قال: ما أن بقارئ، فضمة الثالثة، وقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} [العلق:1 - 3] فاندفع يقرءوها وراء جبريل كيف يقرأ؟ أين الكتاب؟ وأين القلم؟ وأين الدفتر؟ وأين المجلد؟ وأين المسطرة؟ لا شيء! قال أهل العلم: معناها: اقرأ -يا محمد- في كتاب الكون.
وكتابي الفضاء أقرأ فيه صوراً ما قرأتها في كتاب
قل للطبيب تخطفته يد الردى مَن يا طبيب بطبه أرداكا؟
قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب مَن عافاكا؟
والنحل قل للنحل يا طيرالبوادي ما الذي بالشهد قد حلاكا؟
وإذا ترى الثعبان ينفث سمه فاسأله من ذا بالسموم حشاكا؟
واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا؟
فالحمد لله الجليل لذاته حمداً وليس لواحدٍ إلاَّكا
كأنه يقول له: اقرأ في الشمس من رفعها؟ من زينها؟ لكن كثيراً من أهل الشهادة اليوم لا يقرءون كما يقرأ محمد صلى الله عليه وسلم؛ إنهم أميون وهو أمي؛ لكنه مِن أعلم العلماء، بل هو أعلم من في الدنيا، وهم يحملون الشهادات، وهم مع ذلك أميون لا يقرءون في الشمس من جملها! ولا في النجوم من سواها! وكأنه يقول: اقرأ في الغدير في الجدول النمير في الشجر في المدر، اقرأ في الحجر؛ لترى آيات الوحدانية.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحدُ؟!
فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد!
ومشى ليعود وهو يرتجف خوفاً صلى الله عليه وسلم، فقال لأهله: {زملوني، زملوني - أي: ألحفوني ألحفوني - لقد خشيتُ على نفسي، وتقول امرأته الرشيدة العاقلة: كلا والله! لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتحمل الكل، وتعين على نوائب الحق}.
إن الله لا يُخزي المحسنين، فإن من سنن الله الكونية والشرعية ألاَّ يُخزي من أحسن سبيلاً، أو من اتجه إليه، إنما يُخزى الفجرة والظلمة.
فعاد عليه الصلاة والسلام والله يقول له: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً} [المزمل:1 - 2] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر:1 - 2].
فقام لينذر الجزيرة العربية، لأن الجزيرة العربية لا بد أن تكون كعبة الوعي والطموح والإيمان، والجزيرة العربية لا بد أن تكون أم البذل والعطاء والسلام، والجزيرة العربية لا بد أن تكون محور الإسلام ومحور اليقين والإيمان الجزيرة العربية قدرها الإسلام والإسلام قدرها، وهي لا تعيش إلا على الإسلام، ولا بد على مَن يعيش على تراب الجزيرة أن يكون مسلماً مؤمناً، سواءً أكان حاكماً أو محكوماً قاضياً أو رئيساً شاعراً أو مسرحياً صحفياً أو أديباً قصصياً أو ممثلاً، لا بد أن تكون قضيته الأولى أن يكون مؤمناً، لأن الجزيرة العربية ترابها مؤمن وهواءوها مؤمن، وماءوها مؤمن إن الجزيرة العربية هي التي سقط فيها النور من السماء، وانبعث فيها الوحي، وانبعث فيها محمد عليه الصلاة والسلام، لا نقول ذلك تعصباً والله، فإن أرض كابول قطعة من أرضنا، وإن الأندلس المفقود شيءٌ من بلادنا، وإن بقاع الهند ونهر اللوار والكونج، كلها لا بد أن تكون من تراثنا وترابنا؛ لأننا نحن الذين ينبغي أن نكون حكام العالم.
يا أمة في عمرها لم تحي إلا بالجهاد
كفرت بمجلس أمن من نصب المنايا للعباد
القاتلو الإنسان خابوا مالهم إلا الرماد
جثث البرايا منهمُ في كل رابية وواد
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين إنه هو التواب الرحيم.