أما وصيته عليه الصلاة والسلام بالتقوى فإنه أوصى بها في أكثر من ثلاثين حديثاً، فقال لـ أبي ذر: {أوصيك بتقوى الله فإنه رأس الأمر كله} رواه ابن حبان في صحيحه، وقال عند أحمد في المسند بسند صحيح عن أبي سعيد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: {أوصيك بتقوى الله فإنها رأس كل شيء، وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام}.
وقد امتثل معاذ هذه الوصية منه عليه الصلاة والسلام، فقد ذهب إلى اليمن فلم يأخذ من مال المسلمين لا قليلاً ولا كثيراً، فلما عاد إلى المدينة قالت له زوجته: أما أخذت مالاً نفعتنا به.
قال: إن عليَّ ضاغطاً.
قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم، يقصد المراقبة والمحاسبة.
كأن رقيباً منك يرعى مسامعي وآخر يرعى مسمعي وجناني
ورأيت في ترجمة رجل من بني إسرائيل أنه اختفى في غابة، فأراد أن يفعل معصية، فقال: لا يراني أحد ولا يعلم بي أحد، فسمع هاتفاً يقول: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].
وأوصى بعض الصالحين ابنه قال: أريد سفراً.
فقال له: اتق الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين، فهو لا تخفى عليه خافية، سبحان الله العلي العظيم!
هذا محمد صلى الله عليه وسلم في بيته الطيني في المدينة تدخل عليه خولة بنت ثعلبة، فتشكو إليه زوجها والله فوق سبع سماوات يخبره بشكواها، ولم تسمع عائشة مع أنها كانت قريبة منهم؛ فيقول الله عز وجل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة:1] فهذا هو اللطيف الخبير القريب الذي يرى ويسمع ويبصر.
أحد العباد اسمه حبيب أبو محمد: كان يبيع ويشتري فكان يبيع الدرهم بالدرهمين -وهذا ربا لكنه ناسك جاهل- فمر بالصبيان فقالوا: أنت حبيب المرابي؟! قال: سبحانك يا رب! فضحتنا أمام الناس! قال: فتاب إلى الله عز وجل من الربا، وسأل أهل العلم ثم تصدق بأمواله، فعاد إلى الصبيان فقالوا: مرحباً بك يا عابد يا أبا محمد.
قال: سبحانك! أنت الذي تمدح وأنت الذي تذم! وهذا كلام جيد ويوصف به سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فإن مدحه زين وذمه شين.
أتى بنو تميم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الظهر، وطرقوا بابه قالوا: اخرج إلينا يا أبا القاسم؛ فإن مدحنا زين وذمنا شين.
يقولون: نحن إذا مدحنا مدحنا واحذر ذمنا، وحاول أن تكسب مدحنا، قال عليه الصلاة والسلام: {ذلكم هو الله} الذي مدحه زين هو الله، والذي ذمه شين هو الله، فقال الله: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات:4] وإلا فالمادح حقيقة هو الله، فإذا أثنى الله على العبد بواسطة قلوب العباد فالعبد ممدوح وإذا ذم العبد بواسطة قلوب العباد فالعبد مذموم مسبوب؛ ولذلك يقال في بعضهم آلاف القصائد وهو مذموم عند الله، ويهجى بعضهم بآلاف القصائد وهو ممدوح عند الله، فالحب من عنده والبغض من عنده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، يأتي الحب والبغض من السماء، ولا يأتيان من الأرض.