يموت أبو بكر وما خلف إلا ثوبين وبغلة وشيئاً من مال، ويقول: [[اذهبوا بها إلى عمر بن الخطاب، وقولوا لـ عمر: يا عمر! اتق الله لا يصرعنك الله كمصرعي]] فلما وصلت إلى عمر بكى حتى جلس، وقال: [[أتعبت الخلفاء بعدك يا خليفة رسول الله!]].
ولما تولى عمر الخلافة ما أخذ قليلاً ولا كثيراً حتى يقول على المنبر: [[والله الذي لا إله إلا هو، ما أخذت من مالكم شيئاً إلا بردتين (ثوبين) ثوب في الصيف وثوب في الشتاء]] وعين له راتباً كان يقوم بأحواله كفافاً، فإذا بقي دقيق، أو شيء من زبيب أو سمن رده إلى بيت المال.
لما اشتهت زوجه الحلوى قال لها من أين لي ثمن الحلوى فأشريها
حسبي وحسب القوافي حين أرويها أني إلى ساحة الفاروق أهديها
يا رب هب لي بياناً أستعين به على حقوق العلا قد نام راعيها
قل للملوك تنحوا عن مناصبكم فقد أتى آخذ الدنيا ومعطيها
هذا هو التاريخ المشرق، هذا هو الرجل القرآني الفذ الذي رباه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسوف يمر بنا على الطريق مع علي وأبي ذر وأبي {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90] وسوف نستمع إلى أخبارهم في الإمارة.
{أو شاة تيعر} أو يأتي هذا الرجل الخائن الذي خان في شاة عليه الشاة، وفي حديث أبي ذر وأبي هريرة اللذين هما في الصحيحين {أن من غل ذهباً صفحت له صفائح فأحرق بها} وهذا شاهده في القرآن، وهو الذي يكنز ويغل ويخون {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:34 - 35].
يا خونة! هذا كنزكم، يا خونة! هذا ميراثكم، يا خونة! هذا مالكم في الدنيا.
فالله الله أن يراقب الإنسان نفسه مع الله، ولا يستصغر أي مسئولية، قال صلى الله عليه وسلم: {كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته} درهم واحد، ريال واحد، شيء من حب، شيء من زبيب، شيء من ثياب، إنها مسئولية أمام علام الغيوب سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94].
يقول عليه الصلاة والسلام: {اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به، ومن شق عليهم فاشقق عليه} هذا الحديث صحيح، فمن رفق ورحم رحمه الله، ومن شق عليهم وأخذ أموالهم وأتعسهم أتعسه الله في الدنيا والآخرة، وفي حديث لكن في سنده نظر: {الناس عيال الله أحبهم إلى الله أنفعهم لعياله} وقد ضعفه كثير من العلماء ولو أن معناه صحيح.
لما عرف الصحابة تيقنوا أن الإمرة لا تصلح أبداً، وأنهم إذا أقدموا على الإمرة أقدموا على النار، فكانوا يستعفون الرسول عليه الصلاة والسلام، يقول لأحدهم: اذهب يا فلان، يقول: اعفني يا رسول الله من الإمرة.
قام عليه الصلاة والسلام في الناس خطيباً في المسجد، فقال: {والذي نفسي بيده، لا نولي أحداً منكم على عمل فينقصنا ولو مخيطاً أو شعرة إلا أتى بها يوم القيامة، فقام رجل أسمر من الأنصار، فقال: يا رسول الله! خذ عملك والله لا أتول لك عمل، قال: ولم؟ قال: سمعتك تقول: كيت وكيت، فرفع عليه الصلاة والسلام أصبعه وقال: والذي نفسي بيده، لقد قلته، والذي نفسي بيده، إني أقوله الآن، أن من تولى عملاً فنقصنا مخيطاً أو شعرة ليأتين به يوم القيامة} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فأحجموا جميعاً.
حتى يقول عمر: [[ما أحببت الإمرة في الإسلام إلا مرة واحدة]] ما هي يا أبا حفص هذه المرة؟!
ما هي هذه الليلة التي أحببت فيها الإمرة وأنت لا تحب إلا الآخرة؟
يقول: ما أحببت المنصب والتولي إلا مرة واحدة! اسمع يا هذا إلى الصادق، الصادق مع الله، والصادق مع القرآن، والصادق مع نفسه {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] يقول -وهو حديث أسوقه من رواية ابن عباس، قال- {أرسل صلى الله عليه وسلم لفتح خيبر أبا بكر فلم يفتح عليه، ثم أرسل عمر فلم يفتح عليه، فاهتم الناس وباتوا يدوخون ليلتهم كيف تفتح خيبر؟ تحصن بها اليهود حتى تعرضت لجيش المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأراد صلى الله عليه وسلم أن يقتحمها اقتحاماً، لكن أراد أن يفتحها أولاً بجيش وكتيبة، لكن في الليلة الثالثة صمم عليه الصلاة والسلام على اقتحامها بكرة النهار، وأحرق شيئاً من النخل والمزارع} حتى يقول حسان وهو يمدح الرسول صلى الله عليه وسلم في قصيدة عسكرية رائعة، ويذم اليهود:
وهان على سراة بني لؤي حريق بـ البويرة مستطير
يقول: الأمر سهل، انظروا بني لؤي -أي: أسرة الرسول صلى الله عليه وسلم- ماذا فعلوا بكم يا إخوان القردة والخنازير؟ فأتوا تلك الليلة وناموا وهم في هم لا يعلمه إلا الله، تحصنت خيبر، والرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة قلت نفقتهم، وذهب طعامهم وشرابهم، وأتاهم أمر عظيم، فقال صلى الله عليه وسلم، بعد صلاة العشاء، في ليلة دامسة بطيئة النجوم، لكنها طيبة متفائلة بإذن الله: {لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله}.
ما أحسن هذا الرجل! فمن هو هذا الرجل؟! هو أبو الحسن علي بن أبي طالب.
يقول محمد إقبال:
أما أبوها فهو أكرم مرسل جبريل بالتوحيد قد رباها
وعلي سيف لا تسل عنه سوى سيفٍ غدا بيمينه تياها
يقصد فاطمة.
فقال عمر: [[فأحببت الإمرة تلك الليلة]] يريد أن يكون هو، لا والله ليس للإمرة، ولا للفخر، ولا للشهرة، ولا للرياء والسمعة، ولكن لعله أن يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، فكلهم ما أتاهم النوم، خاصة كبار الصحابة, الأسماء اللامعة، النجوم التي تأتي دائماً في المقدمة ما أتاهم النوم، يريدون هذه المواصفات، وبعد صلاة الفجر النبي صلى عليه الصلاة والسلام بالناس، وعلي شاب فقير عليه كساء مخمل أتاه من البرد وكان أرمد تلك الليلة ما يرى مد يده أبداً.
قادوه إلى الصلاة وهو في طرف الناس، ما طلب الإمرة ولا سعى لها ولا حرص عليها، قال عليه الصلاة والسلام: {لأعطين الراية رجلاً يحبه الله ورسوله، ويحب الله ورسوله يفتح الله عليه}.
أين علي بن أبي طالب؟
قال الصحابة: يا رسول الله! مريض ما بات البارحة، ولا يبصر شيئاً أبداً، فذهبوا إلى أبي الحسن رجل المواقف المشهودة في الإسلام فأخذوه، ولذلك يقول وهو يبكي لما مرَّ بسورة الحج: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:48] قال: [[أنا أول من يجثو عند الرحمن يوم القيامة للخصومة على ركبي يوم أتحاكم أنا ومن بارزني في بدر]].
يقول: أنا أول من يجلس على العرصات في القيامة للخصومة يوم أتحاكم أنا ومن بارزني في بدر؛ لأنه بارزه رجل من الكفار، وبارز هو رجلاً, كانوا ثلاثة من المسلمين وثلاثة من الكفار، فسوف يحكم الله بين الثلاثة والثلاثة.
والقضية معروفة، الحق معروف والباطل معروف، لكن الله ليس بظلام للعبيد، يأتي بالثلاثة المبارزين من حزب الحق مع الثلاثة من حزب الضلال والغي، فيقول: لماذا تختصمون؟ {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج:19].
فـ علي -رجل المواقف أتى يقودونه بيده- حتى وقف أمام الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: {خذ الراية} والرسول صلى الله عليه وسلم يتبسم، قال: [[يا رسول الله! والله ما أبصر شيئاً حتى مد يدي]] أرمد العينين، فقرب منه صلى الله عليه وسلم فتفل في عينيه، فإذا هو يرى كرؤية قلبه إلى الحق ما كأن به قلبة واحدة، فأخذ الراية بيده، قال: ماذا أفعل؟ -يتلقى التعليمات- ماذا أفعل يا رسول الله؟ أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا، وعلي رضي الله عنه وأرضاه الرجل الذي يضرب هامات الملاحدة والطغاة في سبيل الله.
علي يجزر الكفار جزراً، قال صلى الله عليه وسلم: {يا علي! امش على رسلك، وادعهم إلى الإسلام فوالذي نفسي بيده، لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمر النعم} فأخذ الراية.
قال أحد الصحابة وأظنه بريدة بن حصيب: [[والله إنا كنا نهرول معه هرولة]] أي: يهرولون، كان شاباً متيناً قوياً، ولو أنه فقير لكن كان بطيناً، حتى أورد عنه في السيرة أن أحد الخوارج، قال: نراك زاهداً وأنت بطين، كبير البطن، قال: [[أما أعلاه فعلمٌ، وأما أسفله فنعمة من نعم الله]].
فأخذ يثب ويثب معه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم كالأسود، فأتى يناديهم: انزلوا يا أعداء الله! انزلوا لموعود الله! عرض عليهم الإسلام فلم يقبلوه، ثم نزل له مرحب في القصة التي مرت بنا كثيراً، فقتله علي وفتح الله على يديه، قال عمر: [[فما أحببت الإمرة إلا ذاك اليوم]].
أما غيرها فكان يتملص من كل جهة لا يريدها، حتى يوم تولَّى الخلافة في أول يوم وقت البريقات والتشريفات والهناء والترحاب قام يبكي على المنبر حتى ما استطاع أن يتكلم.
عمر رضي الله عنه أورد عنه ابن جرير أنه ما استطاع أن يتكلم أبداً، ثم قال في اليوم الثاني: [[اللهم إني بخيل فاجعلني كريماً لأوليائك، اللهم إني شديد فاجعلني رحيماً بأوليائك]] إلى آخر خطبته الصادقة رضي الله عنه وأرضاه.
أتى العباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم ورأى أن له حقاً في تولي الإمرة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يولي الناس، لا ينظر إلى نسب، ولا ينظر إلى أسرة، ولا ينظر إلى قبيلة بل ينظر إلى أتقاهم وأقربهم إلى الله وإلى رسوله {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] حتى ورد في المسند أن الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: {لو كان سالم مولى أبي حذيفة حياً لوليته الخلافة} سالم مولى ورقيق، حافظ للقرآن، يقول صلى الله عليه وسلم: {لو كان حياً لوليته الخلافة} على المسلمين جميعاً.
وسالم هذا يقول في اليمامة: [[بئس حامل القرآن أنا إذا انهزم المسلمون اليوم أو أوتي المسلمون من قبلي]] حضر اليمامة فاغتسل وتكفن، وكان يحفظ القرآن، وأخذ العلم وحفر لأقدامه إلى ركبه في الأرض، وقال: [[والله لا أتزحزح وقبري هنا]] فأتت كتائب مسيلمة، ووقف يقاتل ويقاتل حتى قتل في سبيل الله، فهذا هو سالم الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم ذلك.
فـ العباس أتى وقال: يا رسول الله! وليت فلاناً، ووليت فلاناً أريد أن توليني ولاية، لأن المتولي يكسب، يكسب أولاً أناساً يخافونه، ويرهبونه، ويحترمونه، ويقدرونه، حتى أقل دائرة من الدوائر إذا كان رئيسها على ظهر المنصب وفي المنصب وجد تقديراً من الناس، لأن تقدير الناس في الغالب على الدنيا، لكن إذا عزل أصبح في طرف المجلس.
وقبل ذلك يعانقونه وينادونه ويقولون: يا أبا سعيد، ويا أبا علي، ويا أبا عبد اللطيف, حياك الله وبياك، يا حسنة الدهر ويا بركة الزمان، لكن إذا انتهى، انتهى ودادهم معه.
وكم في الحفل أبهى من عروس ولكن للعروس الدهر ساعد
في قصيدة طويلة يقولها أحد الأدباء من الشافعية، معنى كلامه: أن هذه الدنيا تقاس بالرتب، لكن إذا انتهت رتب الدنيا فلا ينتهي الدين، ولذلك كان ميزان الصحابة تقوى الله عز وجل، فقال: يا رسول الله! ولني ولاية، قال: {يا عباس! يا عم رسول الله! نفس تنجيها خيرٌ من إمارة لا تحصيها}.
يقول: تريد النجاة من النار؟! تريد النجاة من العار؟! تريد النجاة من الحساب والعذاب والنكال؟! نفس تنجيها خير من إمارة لا تحصيها.
بالله ماذا ينفع الإنسان يوم القيامة، وقد تولى إمرة الدنيا جميعاً، ثم لم يعدل ولم ينصف ولم يتق الله ثم خسر نفسه؟ والخاسر الخاسر من خسر نفسه، قال: {نفس تنجيها ولا إمارة تحصيها} فأخذها رضي الله عنه وأرضاه وصية من المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولكن أبا ذر لزهده رضي الله عنه وأرضاه كان صريحاً، حتى يقول بعض العلماء: رُبي في الصحراء؛ فهو صريح كالصحراء، وعاش في الصحراء؛ فهو صادق كالصحراء، {أتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! وليت فلاناً، ووليت فلاناً، ووليت فلاناً، فلماذا لم تولني؟ قال: يا أبا ذر! والله إني أحب لك الخير كما أحب لنفسي -في بعض الروايات- يا أبا ذر إنك رجل ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة, نعمت المرضعة وبئست الفاطمة}.
هذه الإمرة يقول صلى الله عليه وسلم: أحب لك من الخير ما أحب لنفسي، وأنصح لك لأني أحبك ما أنصح لنفسي، فلا أنصحك أن تتولى أبداً، ثم قال له: إنك ضعيف، قالوا: ضعيف الرأي، ولا يدل ضعف الرأي على ضعف الفضل، بعض الناس من أولياء الله الأبرار قصره في الجنة كالربابة البيضاء، بعض الناس من أفضل الناس الذين يمشون على الأرض، لكن لا يعرف البيع ولا الشراء ولا يخادع، ولا يماكس، لكنه صادق، طيب القلب، وفيه طيبة وقرب وسهولة، ليس عنده تصريف ولا تحريف، لكنه يقوم بشئون دينه، فهذا من الفضلاء الكبراء.
لكن بعضهم يجمع مع الدهاء والقوة في الدين والعمق قوة في الدنيا كـ عمر بن الخطاب، هذا رجل الدنيا والآخرة، إن أتيت في طريق الجنة وجدته من السابقين، وفي طريق الدنيا يقول: [[لست بالخب ولا الخب يخدعني]] يقول: أنا لست خباً، لكن ما يخدعني أحد، فنصح صلى الله عليه وسلم أبا ذر، وقال: {نعمت المرضعة وبئست الفاطمة} أول ولاية المنصب والمسئولية والإدارة أو غيرها بشرى للناس وللأهل والأقارب، ويوم العزل يوم مأتم، فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة، هذا أمر.
ثم أتى أبي بن كعب رضي الله عنه سيد القراء إلى عمر، فقال: يا عمر! كيف تولي الناس وتتركني؟
قال عمر: [[والله يا أبا المنذر! إني أحبك كحبي لنفسي، ولكن ما تركتك من الإمرة لئلا أدنس إيمانك]] فبقي وأخذها نصيحة من عمر، فلم يتول ولاية حتى لقي الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
هذه هي طائفة من بعض قصص الصحابة يوم أحجموا عن هذه الأمور، ولذلك كانوا يقفون أمام عمر فيوليهم، فيقول أحدهم: لا، لا أريد ذلك.
يأتي بـ أبي عبيدة فيوليه إمرة الجيوش فيتملص ويحاول أن يتخلص، فيرغمه عمر رضي الله عنه، يأتي بـ سعيد بن عامر قال: والله لا أتولى، قال: [[والله لا تضعون الخلافة في عنقي ثم تذهبون وتتركونني]] فولاه غصباً.
وهذا منهج السلف الصالح وصل حتى القرن الرابع والخامس إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، أتوا بـ أبي حنيفة ليولونه القضاء، فقال: أنا لا أصلح للقضاء، قال الخليفة له: كاذب أنت تصلح للقضاء، قال: مادام أني كاذب فلا أصلح للقضاء فتركه من القضاء، وأُتي به في المرة الثانية، وقال: أنا لا أصلح للقضاء، قال: تصلح، قال: ما أستطيع، فحاولوا معه وحاولوا، ثم جلدوه ثمانين جلدة وأعفوه من القضاء.
وورد أن الإمام مالك حاولوا معه بكل الوسائل فرفض، وأتوا كذلك بـ إسماعيل بن إبراهيم بن علية فولوه القضاء، فذهب ابن المبارك فكتب له: ويلك من الله! إن في الحديث القضاة ثلاثة, اثنان في النار وواحد في الجنة، فانظر أن تكون من الاثنين، فكتب لـ ابن المبارك ما فهمت ما تقول.
أبى هذا إلا أن نقشر له العصا، فكتب له قصيدة؛ لأنه ما فهم بالنثر فيفهم بالشعر، قال:
يا جاعل العلم له بازياً يصطاد أموال المساكين
أين رواياتك فيما مضى عن ابن عون وابن سيرين
إن قلت أخطأت فقل لي إذاً زل حمار الشيخ في الطين
فذهبت قصيدة طويلة، وكان ابن المبارك من أشعر الشعراء، وشعره من أجمل ما يقال! فذهب فلما قرأ القصيدة عرف، فبكى حتى بل الورقة، ثم دخل على هارون الرشيد، قال: شبتُ يا أمير المؤمنين! اعزلني، فعزله، قال: عرفت من ضلَّلك يـ ابن علية! قال: من هو؟ قال: ابن المبارك؛ لأنه ينصحهم ابن المبارك ولا يريد لإخوانه أن يتعرضوا على نار تلظى، النصيحة في الدنيا وليست في الآخرة، وابن المبارك لم يتول أبداً، وكذا الإمام أحمد وابن تيمية.
مسألة:
لكن هنا مسألة، أن يبقى هذا المنصب والدائرة والمكان بحاجة لك، وأنت -إن شاء الله- من أصلح الموجودين فلا تتأخر، قال يوسف عليه السلام: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] فيوسف رأى أن الأمور تنتهي، وأن الكفار يتولونها فتقدم لأخذها.
وقد عزل عمر رضي الله عنه أبا هريرة من البحرين، لماذا؟
لأن قدامة بن مضعون أحد الصحابة رضي الله عنه وأرضاه من أهل بدر، يظن أن الخمر ليست محرمة: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:93].
قال: إنه ما دام أنه لا جناح علينا فيما طعمنا وشربنا فشرب الخمر، فأُتي به إلى عمر، وكان هو صهر عمر، أخت عمر عند هذا، ولكن عمر لا يعرف في الحق لومة لائم، بل على نفسه التي بين جنبه، فقال للصحابة وجمعهم ماذا ترون؟
قالوا: هو مريض، قال علي: [[نرى يا أمير المؤمنين أن تتركه حتى يتشافى، قال: لا والله؛ لأن يلقى الله وهو مطهر بالحد خير من أن يموت وما طهرته]].
فذهبوا إليه فسألوه، قال: الخمر ليست محرمة؛ لأن الله يقول: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [المائدة:93] فاستشار الصحابة، قال علي بن أبي طالب: إن كان أصر على رأيه فيقتل بالسيف، وإن لم يكن فيجلد جلداً، فسألوه، فرأوا أنه متأول فجلدوه, وهو من الأخيار الأبرار الذين أخطئوا، والإجماع منعقد كتاباً وسنة ونقلاً على أن الخمر حرام، وأن من شربها في الدنيا لم يشربها في الآخرة، لكن هذا الرجل له عذر ولم يصله بلاغ من الله، وقد قدم دمه في خدمة الإسلام رضي الله عنه وأرضاه.
فعزل أبا هريرة لأنه أدلى بشهادته، لكن بصورة تختلف عما يطلب منه عمر، ثم أتى عمر واحتاج لـ أبي هريرة، قال: تولّ، قال: والله ما أتول، قال: ولم؟ قال: أخاف ثلاثة واثنتين، قال: قل خمساً، قال: لا.
أخاف ثلاثة واثنتين، قال: ما هي الثلاث والاثنتين؟ قال: [[أخاف أن يجلد ظهري، ويؤخذ مالي، ويسفك عرضي، وأخاف في الآخرة أن أُوتى مغلولاً، وأن أرد على وجهي في النار، قال عمر: يا بن أم أبا هريرة! أنت خير أم يوسف الذي يقول: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] قال: يوسف كريم ابن كريم ابن كريم، وأنا ضعيف ابن ضعيف ابن ضعيف]] أو كما قال، وهو صادق رضي الله عنه.
فمن وجد في نفسه قوة كما أفتى في ذلك أهل العلم، حتى ابن تيمية في باب القضاء: يقول: إذا تركت القضاء عند المسلمين، ورأيت أمور المسلمين تضيع، ويتولاها كل فاجر لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، يريد المال من أي جهة، ثم يستعبد عباد الله ويجعلهم خولاً، فهذا يستثنى في هذه الصورة، إذا رأى الإنسان من نفسه قوة، وعلم أنه سوف يتقي الله عز وجل.