أعظم قضية في هذا الحديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام قام على المنبر، فجمع الصحابة من المهاجرين والأنصار، فقال: {ما بال رجال أبعثهم لأخذ الصدقات، فيأتي أحدهم فيقول: هذا لكم، وهذا أهدي إلي، والذي نفسي بيده، لا يأخذ أحدكم شيئاً ليس له إلا أتى به يوم القيامة}.
تصور قوله: إلا أتى به يوم القيامة! فمن يأتيك بالمال الذي في الدنيا؟ ومن يأتيك ببقر وغنم الدنيا؟ لكن يأتي بها الله ويصورها على أكتاف الناس.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: {فلأعرفن} جاءت اللام للقسم، وقيل: {فلا أعرفن} للنفي وهي الأصح.
قال: {فلا أعرفن} كأنه يقول: أرجوكم لا تحرجونني يوم العرض الأكبر عند الله، لا تخيبوا الأمة المحمدية بالخيانة، لا تفضحوا الأمة على رءوس الأشهاد.
يقول: {فلا أعرفن} أي: لا أرى هذا المشهد، {لا أعرفن رجالاً يأتون وعلى كتف أحدهم بعير له رغاء} الحديث.
من سرق أو غل أو خان في الدنيا ببعير، حمله على أكتافه يوم العرض الأكبر, صحت بذلك الأحاديث، ويأتي البعير لا يأتي وهو ساكت، يأتي وله رغاء في الموقف والناس يشهدون، نسأل الله العافية والسلامة.
لأن ذلك موقف المنائح أو الفضائح، إما إنسان سدد واتقى الله في المال، وخاف في الولاية أو المسئولية فهو ممنوح ومشروح، أو إنسان سلم منها سلامة مطلقة، فأتى الله وهو أبيض نقياً.
إما إنسان مفضوح يوم العرض الأكبر، فيأتي وليس البعير ساكتاً ولكن للبعير حمحمة ورغو وزبد، يرغو حتى يسمعه الناس، ليعلموا فضيحة هذا الرجل.
في الدنيا تستر عن جيرانه، وتستر عن زوجته في بيته وعن أطفاله، لكن الذي يعلم السر وأخفى هو أعلم بأنه خان وبأنه غل، ولذلك فإن الغادر يأتي بلواء منصوب مكتوب عليه: هذه غدرة فلان بن فلان، ولا حسرة, ولا ندامة, ولا كسف, ولا كسحة, إلا في ذلك اليوم.
الدنيا همها سهل وبسيط، وهي نسبية (ستون سنة أو سبعون) وينقضي فيها ومن فيها، لكن على رءوس الأشهاد يوم العرض الأكبر {أو بقرة لها خوار} يأتي والبقرة محملة على ظهره تخور أمام الناس، لتخبر أنه خان في مال الله عز وجل، الذي استرعاه الله فيه، ولذلك ما بلغ الصحابة إلى هذا الزهد والتقشف والاحتماء من أموال الناس هذه المنزلة، إلا بسبب هذه الأحاديث وأمثالها.