إن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى كتب الصدقات، والصدقات إذا أطلقت في القرآن معناها: الزكاة، وجعل هناك عمالاً، قال في سورة التوبة: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:60] فكان عليه الصلاة والسلام لا يترك الصدقات في أيدي الناس يتلاعبون بها، بل كان يرسل عماله، وفي الصحيحين أنه أرسل معاذاً، والشاهد قال فيه: وأخبرهم بعد الصلاة: {وأن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، وتوق دعوة المظلوم -وفي لفظ- إياك ودعوة المظلوم؛ فإنها ليس بينها وبين الله حجاب}.
فأرسله صلى الله عليه وسلم ليقبض الصدقات ولم يتركها للناس، فكان من أبر الناس, ومعاذ رضي الله عنه لم يتدنس من مالهم بشيء.
وممن أرسلهم صلى الله عليه وسلم لجمع الصدقات من الناس عمر بن الخطاب، فمر بالناس جميعاً، وأتى -وهذا الحديث صحيح- وقال: {يا رسول الله! كل الناس دفعوا لي الصدقة إلا ثلاثة، قال: منهم؟ قال: عمك العباس وخالد بن الوليد وابن جميل، قال: أما عمي فيا عمر! أما علمت أن عم الرجل صنو أبيه هي علي ومثلها} لأن العباس أقرض الرسول صلى الله عليه وسلم قرضةً لسنتين، واستحى يوم أن أتوا يأخذون منه الصدقة أن يقول: أعطيتها الرسول صلى الله عليه وسلم فأمسك الصدقة؛ لأنه يعرف أنهم سوف يعرفون أنها عند بيت المال.
قال صلى الله عليه وسلم: {وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً، لقد احتبس أدرعه وأعتده في سبيل الله}.
يقول: شيء أوقفه في سبيل الله تطلب منه الصدقة، خالد كان له مائة فرس، ومائة سيف، ومائة درع في بعض الروايات، قال: هي وقف في سبيل الله.
يقولون معن لا زكاة لماله وكيف يزكي المال من هو باذله
هو البحر من أي النواحي أتيته فدرته المعروف والجود ساحله
ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله
{وأما ابن جميل فما ينقم إلا أن كان فقيراً فأغناه الله} هذا ابن جميل فيه نفاق، ولعله تاب من ذلك؛ فإنه منع الصدقة وقد كان فقيراً، والذي دعا له الرسول عليه الصلاة والسلام ثم منع الصدقة؛ في الأخير أنزل الله عز وجل: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ} [التوبة:75 - 77].
هذا في ابن جميل وأمثاله، والشاهد: أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يرسل أصحابه، لكن يرسل الأمناء، فيرسل أهل الأمانة، والاستقامة، أرسل للنصارى أبا عبيدة، وقال: {لأرسلن معكم أميناً جد أمين}.
ويشترط في من يتولى الأموال على الزكوات والصدقات والتبرعات وهذه الأمور، أن يكون عنده قوة وأمانة.
القوة العقلية: يكون مصرفاً، مقدماً، محرفاً، مزيلاً، محيلاً.
والأمانة أن يكون أميناً، ولذلك تقول ابنة الرجل الصالح, قيل: شعيب أو غيره: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص:26] فأمانة بلا قوة ضعف، وقوة بلا أمانة فجور، والقوي والأحسن والأطيب، أن يكون قوياً أميناً.
فأرسل صلى الله عليه سلم مع وفد نجران أبا عبيدة، وقال: {لأرسلن معكم أميناً جد أمين} والرسول عليه الصلاة والسلام أرسل عبد الله بن رواحة يشاطرهم النخل، ويخرس نخل اليهود، فوصل إلى اليهود -وانظر إلى إخوان القردة والخنازير، الذي يربى على الخساسة يموت على الخساسة، والذي يعرف الدساسة يموت على الدساسة والنجاسة والانحراف والعياذ بالله- أتوا فجمعوا لـ ابن رواحة أموالاً، لماذا؟ رشوة، سبحان الله! ما وجدتم إلا عبد الله بن رواحة الذي ينتظر الموت صباح مساء في سبيل الله، ما يريد الدنيا إلا لمرضاة الله، أما وجدتم إلا صحابياً من أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام وهو أحسن من مشى على الأرض.
فأتوا وقالوا: يا ابن رواحة! خذ هذا المال، وراعنا في الخرص، فاحمرّ وجهه حتى أخذ ينتفض، ثم قال: [[يا إخوان القردة والخنازير! والله الذي لا إله إلا هو، إنكم أبغض عندي من أمثالكم، ومن عدّتكم من القردة والخنازير، وإن هذا لا يمنعني أو لا يحملني على الحيف -أي: على ظلمكم- والله لا أظلمكم ولا آخذ هذا قيد أنملة]].
قالوا: بهذا العدل قامت السماوات والأرض، وعاد ابن رواحة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فلما علم الله أمانة ابن رواحة وصدقه رزقه الشهادة في سبيله.
ولذلك ثبت في الصحيح، أنه اتكأ في حجر امرأته - كان ابن رواحة من الشجعان الكبار من الأنصار، وكان شاعراً مجيداً يشعر في المعمعة- يقول:
أقسمت يا نفس لتنزلنه
لتنزلن أو لتكرهنه
إن أقبل الناس وشدوا الرنة
ما لي أراك تكرهين الجنة
هل أنت إلا نطفة في شنة
جلس ابن رواحة يقرأ القرآن في حجر امرأته، وأخذ يبكي ودموعه تسيل على لحيته، قالت: مالك؟ قال: ذكرت قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:71 - 72] فأخاف أن أترك وأطرح في النار ثم لا ينظر إلي.
فلما أخبر صلى الله عليه وسلم في بعض الآثار، قال: {لينجه الله عز وجل} كما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر:61] فنجاه الله بمفازته من الإيمان، حتى رأى صلى الله عليه وسلم سريره من ذهب يعترض في جو وسماء المدينة ليدخل الجنة، وقتل في مؤتة في أرض الأردن هناك حيث يعرفهم الله عز وجل.
عدو القتلى لـ عمر في معركة بها شهداء، فقالوا: فلان بن فلان قتل، وفلان وفلان ولا نعرف كثيراً، فدمعت عين عمر، وقال: [[ولكن الله يعرفهم]] يعرفهم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، يعرف أين ولدوا، ويعرف كيف نشأوا، ويعرف الصادق من الكاذب، ويعرف المقبل من المدبر، فهو سُبحَانَهُ وَتَعَالَى العالم بكل شيء.
هذا ابن رواحة رضي الله عنه الذي عرضوا له المال؛ لأنهم قردة وخنازير، يقدمون له رشوة، ولا يعلمون أن قلبه أكبر من الرشوة، لأن قلبه عظيم، يحب الله ورسوله فلا يحب الدنيا أبداً.
خذوا كل دنياكم واتركوا قلبي حراً طليقاً غريبا
فإني أعظمكم ثروة وإن خلتموني وحيداً سليبا