قال صلى الله عليه وسلم: {وحرم عليكم منعاً وهات} الحديث، منع: أن تمنع ما بيدك، فالبخل حرام في الإسلام، والبخل نوعان: بخل بالعلم وبخل بالمال، والبخل بالعلم أشد وأنكى، وهو من أكبر الذنوب والخطايا، يقول سبحانه عن البخل بالعلم: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:159 - 160] فلم يكن عند علماء الإسلام بخل بالعلم، وقد كان علماء السلف علماء عامة، كالإمام أحمد والبخاري ويحيى بن معين وابن المديني ومسلم والترمذي وأبي حنيفة ومالك والشافعي وابن تيمية وابن القيم، فهؤلاء كانوا علماء عامة، لم يكن العالم يغلق عليه بابه فإذا أتيته تستفتيه كأنك تراجعه في معاملة، ويفتيك بالقطارة كأنه ينفق عليك من شحمه ولحمه ودمه! لقد كان علماء السنة في المسجد، والشارع، والعشة، وفي البيت والمهرجان والمقبرة، في كل مكان ينشرون علمهم كالسيل، فهذه ميزة العلماء.
وقد علقها محمد الراشد -عمر الله وقته- في كتابه الجيد المنطلق، فقد كتب فصلاً بعنوان: علماء السنة علماء عامة.
وهذا ميزة علماء السنة عن علماء البدعة؛ لأن بعض الناس الآن يقول: العالم لا بد له أن ينفصل عن المجتمع، ولا بد أن يربي الشباب تربية فردية، ولا يتصل بالعامة فقط لأن الانتقاء وارد، ونحن نقول: قد تكون هذه من الوسائل، لكن أن يحكم حكماً عاماً، ويحجز علماء الإسلام وقضاته ودعاته عن العامة فليس بصحيح، هذه نظرة تقبل النقض، وقد تصلح في بعض الفترات وبعض المناطق ولا تصلح في بعض.
الثاني: البخل بالمال، قال تعالى: {يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [النساء:37] البخل شر أسود، وهو أشر الأخلاق، والعرب ما ذمت خلقاً كما ذمت البخل وكرهته، حتى أصبح عندهم مثل الكفر تماماً {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التغابن:16].
(منعاً) أي: حرّم الله على الإنسان أن يمنع الحقوق التي عليه، والكلام على هذه يطول، وإنا أرشح أن تكون هناك محاضرة اسمها: منعاً وهات؛ لأنه لا يستطيع الإنسان أن يشرح أنواع المنع، ومتى يكون المنع واجباً، أو مستحباً، ومتى يكون محرماً، أو مكروهاً، وماذا يمنع، ومتى يمنع إلى غير ذلك.
وهات: أي: الطلب والجدوى، والإنسان شريف، واليد العليا خير من اليد السفلى، اليد العليا يد المعطي، واليد السفلى يد الآخذ، جاء في صحيح مسلم: {ومن سأل أموال الناس تكثراً فإنما يسأل جمراً، فليستقل أو ليستكثر} وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {لأن يأخذ أحدكم حباله فيذهب فيحتطب فيبيع، خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه} وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {لا تزال المسألة بالعبد حتى تأتي خدوشاً في وجهه يوم القيامة} وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {يأتي وليس في وجهه مزعة لحم} أي: ملمساً له، والحديث صحيح، صححه ابن حجر وغيره.
فسؤال المال من غير حاجة ملحة محرم، والذين يسألون ويشحذون الناس ولهم ما يكفيهم، لا ميزان لهم عند الله ولا قدر شاب في الثلاثين يطلب الناس! اذهب يا أخي وتاجر وابذل واخدم نفسك.
وهناك ما يسمى بالبطالة عند شباب الصحوة، وأنا أستغفر الله أن أتهم هذه الصحوة المباركة بشيء، لكن يقولون: وجد في بعضهم بطالة، أي: عدم طلب الرزق [[دخل عمر رضي الله عنه وأرضاه المسجد، فوجد شباباً جالسين في المسجد، فقال: ماذا تفعلون؟ قالوا: نعبد الله، قال: من يطعمكم ويسقيكم؟ قالوا: الله، قال: أدري أنه الله - عمر يدري أن الله هو الذي يطعم ويسقي- قال: لكن من يقدم لكم الطعام والشراب؟ قالوا: جيراننا، قال: انتظروني قليلاً، فذهب رضي الله عنه وأغلق عليهم الباب وأخذ درته -الدرة قطعة خشب تخرج الوساوس من الرءوس، إذا ضرب بها عمر رجلاً عرف القبلة، فالذي لا يعرف القبلة فهذه الدرة مثل البوصلة يعرفه عمر القبلة بهذه العصا.
فدخل عليهم وضربهم، وقال: اخرجوا قاتلكم الله! إن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة]].
فلذلك لا يعترف الإسلام بمقولة: طلب الرزق يعطلني عن الاستقامة والعبادة وصلاة التراويح وقراءة القرآن، ولما فعل المسلمون ذلك أنتج الكافر الطائرة والثلاجة والبرادة والصاروخ، وأنتجوا السيارة وكل شيء حتى الطباشير، وأصبحنا نحن نأكل ونقول: الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا، وهذا جيد وممتاز، لكن ماذا قدمنا نحن؟ لماذا لا ننتج مثلما أنتجوا؟ ولماذا لا نبدع كما أبدعوا؟
منهم أخذنا العود والسجارة وما عرفنا نصنع السيارة
استيقظوا بالجد يوم نمنا وبلغوا الفضاء يوم قمنا