جاء عند الترمذي بسند حسن -والحديث بمجموع طرقه يصل إلى درجة الصحيح- عن معاذ رضي الله وأرضاه, وهو الداعية الكبير، قدوة كل شاب إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، معاذ الذي كان له المنصب العالي في حياته عليه الصلاة والسلام، والذي أرسله صلى الله عليه وسلم داعية إلى أهل اليمن فهدى الله به الأرواح، ويوم ودع الرسول عليه الصلاة والسلام ذاهباً إلى اليمن بكى، وهذه القصة أوردها الذهبي في سير أعلام النبلاء في ترجمة معاذ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {ما لك تبكي يا معاذ؟ قال: يا رسول الله أبكي لفراقك.
قال: لا تجزع فإن الجزع من الشيطان، يا معاذ! اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن، يا معاذ! اذكر الله عز وجل عند كل شجر وحجر ومدر}.
يقول معاذ بن جبل رضي الله عنه: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, فدنت راحلتي من راحلته.
أي: اقترب منه وهم في السفر، فخلا له الجو بسيد الخلق عليه الصلاة والسلام، وتصور أنت في نفسك أنك في جمع عظيم، وفي جيش عرمرم جرار، وفي ألوف مؤلفة من الناس، ثم تخلو برسول الهدى صلى الله عليه وسلم في الطريق أنت وهو! فلما خلا معاذ رضي الله عنه وأرضاه برسول الهدى صلى الله عليه وسلم أراد أن يسأله أعظم سؤال, ومن أعظم الأسئلة في تاريخ الإنسان، وأهل الدنيا يسألون للدنيا, وأهل الجاه يسألون للجاه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16].
اقترب معاذ من الرسول صلى الله عليه وسلم، ودنا منه الرسول صلى الله عليه وسلم, وأخذها فرصة ثمينة غالية، وكان بإمكانه أن يسأله الإمارة, أو أن يؤتيه منصباً أو أن يمنحه مالاً, لكنه رفض ذلك كله، وما سأله إلا عن سؤال عظيم في الآخرة؛ لأن الناس أتوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فمنهم من سأله المال فأعطاه صلى الله عليه وسلم المال، ومنهم من سأله المنصب فأعطاه المنصب، ومنهم من سأله أعراضاً أخرى فأعطاهم عليه الصلاة والسلام: {كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً * انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} [الإسراء:20 - 21].
خذوا كل دنياكم واتركوا فؤادي حراً طليقاً غريبا
فإني أعظمكم ثروة وإن خلتموني وحيداً سليبا
عندما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يوزع غنائم حنين , وكانت -كما يقول أهل السير- أربعة وعشرين ألف رأس من الغنم، وسبعة آلاف رأس من الإبل غير البقر والذهب والفضة، فما سأله أبو بكر ولا عمر ولا معاذ ولا أبو هريرة ولا أُبي إنما أتى الذين كانوا حديثي عهد بالإسلام يسألون، لا زالت قلوبهم فارغة من التوحيد ومن الإيمان ومن الذكر ومن العمل الصالح.
أتى حكيم بن حزام فقال: يا رسول الله! أعطني.
فقال: أترى الغنم التي بين الجبلين؟ قال: نعم.
قال: هي لك، فأخذها.
وأتى في اليوم الثاني فقال: يا رسول الله! أعطني.
قال: خذ, فأعطاه مائة ناقة.
وفي اليوم الثالث ظنها فرصة ويظن أنها لفضله, فجاء وقال: أعطني يا رسول الله! فأعطاه مائة ناقة، وفي اليوم الرابع قال: أعطني يا رسول الله! وكان من أغنى أغنياء مكة، يكسو الكعبة سنة وأهل مكة يكسونها سنة! فالتفت إليه صلى الله عليه وسلم وقال: يا حكيم! إن هذا المال حلوة خضرة، واليد العليا خير من اليد السفلى.
فقال: والله يا رسول الله! لا أرزأ بعدك أحداً من الناس.
أو كما قال.
أي: لا أطلب مالاً أنقصه على أحد من الناس بعدك، حتى عطاؤه ما كان يسأله من أحد من الخلفاء، فكان أبو بكر يعطيه العطاء فيقول: لا، وكان عمر يعطيه فيقول: لا، فيقول عمر رضي الله عنه: أشهدكم أيها الناس أن حكيماً دفعت له عطاءه فأبى ذاك العطاء.
فالمقصود أنه أتى معاذ وهو من العلماء النبلاء، وفي حديث سنده حسن أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {معاذ قائد العلماء يوم القيامة برتوة} وفي لفظ: {يدخل أمام العلماء يوم القيامة برتوة} والرتوة رمية الحجر، أي أن علماء الأمة الإسلامية إذا اجتمعوا يوم العرض الأكبر، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم, يكون قائدهم معاذ رضي الله عنه وأرضاه، يمضي قبلهم حتى يدخل الجنة.
قال معاذ: {يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار -لا فض فوك، ما أحسن هذا المقال! وما أحسن هذا السؤال! - فقال عليه الصلاة والسلام: لقد سألت عن عظيم} هذا السؤال من أعظم الأسئلة في تاريخ الإنسان؛ ولذلك جعل أهل العلم هذا الحديث من أصول أحاديث الأعمال، وأتى به النووي في الأربعين النووية، وتكلف كثير من العلماء في شرحه، وقاموا بتوضيحه للناس وهو وصية أهديها لنفسي وإليكم جميعاً.
قال: {لقد سألت عن عظيم! وإنه ليسير على من يسره الله عليه: تعبد الله لا تشرك به شيئاً, وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت} هذا هو الإسلام، هذا السطر هو مفهوم رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، ليس فيه ألغاز ولا مشكلات ولا تصفيف كلام {تعبد الله لا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة -أي: وقاية من العذاب ومن النار والعار والدمار- والصدقة تطفئ الخطيئة، وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم تلا عليه الصلاة والسلام {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16] حتى بلغ {يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى يا رسول الله! قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله، ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله! قال: فأخذ صلى الله عليه وسلم بلسان نفسه ثم قال: كف عليك هذا.
قلت: يا نبي الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ! -أي: فقدتك أمك لا تفهم هذه المسألة، وهو دعاء عند العرب لا يراد منه إمضاء هذا الدعاء ولا إيقاع هذا الدعاء بالمدعو عليه- وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم} -وفي لفظ آخر: {وهل يكب الناس في النار على مناخرهم أو على أنوفهم إلا حصائد ألسنتهم}.
هذا السائل عن طريق الجنة أجابه الرسول عليه الصلاة والسلام بهذه الإجابة، والطريق إلى الله عز وجل يكمن في هذا الحديث {تعبد الله لا تشرك به شيئاً} ولذلك كان يوصي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس.