يوم أتى سلمان الفارسي يبحث عن النور وعن الطريق إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى, كان في أرض فارس المجوس عبدة النار، الذين ما أطفأ نارهم إلا محمد صلى الله عليه وسلم.
أم من رمى نار المجوس فأطفئت وأبان وجه الصبح أبيض نيرا
ومن الألى دكوا بعزم أكفهم باب المدينة يوم غزوة خيبرا
هذا الرجل كان يسجد للنار من دون الله، والعقل إذا لم يعرف الله ضل، والقلب إذا لم يهتدِ إلى الله عز وجل أصبح قلباً رخيصاً سافلاً حقيراً لا يساوى فلساً واحداً.
فأراد أن يهتدي، ورأى بعض النصارى يقومون بطقوسهم الدينية فذهب إليهم فأعجبه دينهم، لأن دينهم أرفع قليلاً في المستوى من دين المجوسية -وبعض الأديان خير من بعض- فذهب إلى راهب فدله ذاك الراهب في قصة طويلة على راهب آخر، والآخر على آخر، وقبل أن يتوفى الراهب قال له سلمان رضي الله عنه وأرضاه: إنني صحبتك ورأيت فيك الخير فإلى من توصي بي؟ هل تعرف في الأرض رجلاً صالحاً توصي بي إليه؟ فقال هذا الراهب: ما أعلم اليوم على الأرض من رجل صالح إلا نبياً سوف يبعثه الله عز وجل، أظلك زمانه -أي: قرب حينه- فإذا سمعت به فالحق به، فهو في أرض ذات حرة سوداء وذات نخل.
وركب سلمان رضي الله عنه وأرضاه مركب التوفيق، يوم سمع الله أكبر يُهتف بها من مكة، يوم يقول الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] حتى يقول بعض المفكرين: سبحان الله! الرسالة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام تعلن عالميتها من مكة وهو لم يكن عنده إلا شيخ واحد هو أبو بكر، ومولى وهو زيد بن حارثة، وامرأة وهي خديجة، وصبي وهو علي! ويقول الله له: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] ولما سمعها كفار مكة ضحكوا وقالوا: أي رحمة وهم لا يجرؤ أحدهم أن يبول خوفاً من سيوفنا؟! لكن بعد عشرات السنوات أصبحت أعلام لا إله إلا الله على مشارف أسبانيا وعلى ضفاف نهر السند وفي جنوب أفريقيا، سرت هذه الدعوة؛ لأنها رحمة للعالمين.
فأتى سلمان ونزل في المدينة , وهو لا يريد المال فعنده المال، وأبوه من أغنى أغنياء الدنيا, لكنه يريد الطريق إلى الله، يريد توفيق الله، يريد أن ينقذ نفساً حملها بين جنبيه، والرسول عليه الصلاة والسلام يوم أتاه عمه - كما في الحديث الحسن- العباس بن عبد المطلب قال: {يا رسول الله! أريد إمارة -أي: أنه يريد أن يتولى إمارة- لأنك وليت فلاناً وفلاناً.
فقال له: يا عباس! يا عم رسول الله! نفس تنجيها ولا إمارة تحصيها}.
أعظم ما يمكن أن تنفع نفسك في الحياة الدنيا أن تنجو من غضب الله ولعنته وسخطه، فوصل سلمان رضي الله عنه وأرضاه إلى المدينة وعرف الحرتين ورأى النخل, وكان يتوقع وصول الهادي عليه الصلاة والسلام ليعرض نفسه على الطبيب؛ لأنه مرض من المشارب، ومن الملل والنحل، ومن الشركيات والانحراف والتقليد، فلما وصل كان من أعظم العلامات التي أخبر بها سلمان ثلاث علامات في الرسول صلى الله عليه وسلم:
أولها: أنه لا يقبل الصدقة ويقبل الهدية، انظر إلى هذه النفس التواقة الشريفة، نفس مرتفعة، الصدقة هي أوساخ الناس، وهي تطهير لأموال الناس وأعراضهم، فما قبلها ولا يقبلها عليه الصلاة والسلام، وفي صحيح البخاري أنه رأى عليه الصلاة والسلام الحسن بن علي -ابن بنته فاطمة - يأكل تمرة من تمر الصدقة فقال له: {كخ كخ _أي: اتركها- أما تعلم أنه لا تحل لنا الصدقة؟} طفل صغير يريد أن يربيه على الحلال فيقول له: كخ كخ، هذا لا ينبغي لنا، نحن بيت نربى على طاعة الله وعلى الحلال الصرف، فمن مواصفاته عليه الصلاة والسلام أنه لا يقبل الصدقة ويقبل الهدية.
ثانيها: أن بين كتفيه خاتم النبوة عليه الصلاة والسلام، فأتى سلمان رضي الله عنه وأرضاه وذهب إلى النخل وأتى بشيء من الرطب وتقدم به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في أصحابه, فقال: هذه صدقة أتصدق بها عليكم، فكف صلى الله عليه وسلم يده وأكل أصحابه، وفي اليوم الثاني أتى برطب فقدمه وقال: هذه هدية أهديها لكم؛ فأكل عليه الصلاة والسلام.
وذهب صلى الله عليه وسلم يشيع جنازة فرأى سلمان خاتم النبوة بين كتفيه، فجعل يقبل ذلك الخاتم وشهد أن لا إله إلا لله وأن محمداً رسول الله، وبعد أيام ليست بطويلة يقول عليه الصلاة والسلام: {سلمان منا آل البيت} أصبح ذلك المولى الفارسي الفقير المسكين من بني هاشم بالتقوى، والزهد، والعبادة، والإقبال على الله!
جلس سلمان رضي الله عنه وأرضاه -بعد أن عرف الطريق إلى الله- مع قوم من العرب، فقالوا لبعضهم: انتسبوا.
فيقول الأول: أنا تميمي، ويقول الآخر: أنا غطفاني، ويقول ذاك: أنا فزاري، فقالوا لـ سلمان: وأنت ممن أنت؟ فقال:
أبي الإسلام لا أبَ لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم
وهذا هو الفخر العظيم لـ سلمان رضي الله عنه وأرضاه.
وبقيت حياته على وتيرة من الزهد والصدق والعفاف، ويوم تولى عمر رضي الله عنه وأرضاه كان لا يعرف الرجال بالطول ولا بالعرض، ولا يعرفهم بالأسر ولا بالمناصب, بل يعرفهم بتقوى الله، حتى إنه يقول لبعض الأمراء: تول ولاية كذا وكذا.
فيقول: اعفني يا أمير المؤمنين! قال: والله لتتولينها فإني رأيتك في الليل تصلي وتبكي ولا يراك إلا الله.
هذه هي المؤهلات عند عمر بن الخطاب، وكان رضي الله عنه وأرضاه يحاسب أمراءه وهو في عرفات , يحاسب أمراء الأقاليم على الدنيا فكان يقول: يا أيها الناس! والله ما بعثتكم لضرب أبشار الناس ولا أجسادهم, وإنما بعثتكم رحمة للناس.
يا من يرى عمراً تكسوه بردته والزيت أدم له والكوخ مأواه
يهتز كسرى على كرسيه فرقاً من خوفه وملوك الروم تخشاه
وهذه فعلها واحد من أحفاده وهو عمر بن عبد العزيز الخليفة الزاهد، جلس في الأيام الأُول من خلافته في السرادق -الإيوان أو الديوان- فأتى الناس وفوداً يسلمون عليه ويخرجون من الباب الآخر, فدخل ثلاثة شباب في عنفوان الصبا وفي زهرة الفتوة فجلسوا على الكراسي؛ فالتفت إليهم أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز الزاهد فقال: أبناء مَن أنتم؟ قال الأول: أنا ابن الوالي الذي كان والياً لـ عبد الملك بن مروان على البصرة؛ فسكت عمر بن عبد العزيز؛ لأن هذه لا تذهب عنده كثيراً، وقال للثاني: وأنت ابن مَن؟ قال: أنا ابن أحد قواد الجيش الذين كانوا مع الوليد بن عبد الملك؛ فسكت، وقال للثالث: وأنت ابن مَن؟ وهو ابن قتادة بن النعمان الأنصاري , الذي ضربت عينه يوم أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسالت على خده فردها صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة قال الفتى:
أنا ابن الذي سالت على الخد عينه فردت بكف المصطفى أحسن الرد
فبكى عمر بن عبد العزيز والتفت إليه وقال:
تلك المكارم لا قعبان من لبن شيبا بماء فعادا بعد أبوالاً
يقول: من أراد أن يفتخر فليفتخر بمثلك؛ لأن فخرك بالإسلام، وبالخدمة وبالجهاد في سبيل الله، وبرفعة لا إله إلا الله.