المسألة الأولى: أين وقعت المحاجة؟
اختلف أهل العلم في مكان هذه المحاجة، وذكر ابن حجر هذه الأقوال في المجلد الحادي عشر من الفتح، وابن تيمية كذلك في المجلد الحادي عشر من الفتاوى ولم يتعرض للمكان، لأن ابن تيمية شيخ الإسلام يريد دلالة الألفاظ، أما التي لا ينبني عليها كثير فائدة فلا يتبعها رحمه الله؛ لأنه لايهمنا أن تقع المناظرة في السماء الأولى أو الثانية أو في الثالثة، أو في السابعة، أو في الأرض، أو في القبر، لا يهمنا ولا يتركب عليها كثير علم، ولا كبير فائدة، هذه مسألة.
ومن الأقوال أنهم قالوا: وقعت المحاجة والمناظرة في السماء التي فيها آدم عليه السلام، وآدم في السماء الأولى، فقد جاء في الحديث الصحيح المتفق عليه في حديث الإسراء والمعراج أنه في السماء الأولى، فقالوا: المناظرة وقعت في السماء الأولى، وموسى في السماء السادسة، والابن يجب أن ينتقل إلى الأب وهو آدم، وأيضاً أن السائل موسى هو يحتاج أن يسأل، فلابد أن ينزل هو إلى من يجيبه لا العكس، هذا قول.
وقال البعض: لا.
بل وقعت عند موسى في السادسة، لأنه أرفع، فكأن آدم عليه السلام ارتحل حتى وصل فجلس مع موسى فتناظرا هناك، لكن نقول للفريقين: ليس هناك دليل أنها في السادسة أو في الأولى وهذا تنظير عقلي، وعلم الغيب لا يثبت بهذا التخمين، ولا يثبت ذلك إلا بأدلة عن الرسول صلى الله عليه وسلم لكننا نعلم أن هذه المناظرة وقعت في حياة البرزخ بهيئة الله أعلم بها.
وذكر بعضهم أنها وقعت في المنام، ذكر ذلك ابن حجر عن بعض أهل العلم، وقد أسرف وأخطأ كثيراً من قال: هذا مثل ضربه الله وإلا فإن الحادثة لم تقع، يا سبحان الله! الرسول صلى الله عليه وسلم يخبرنا بأنهم تحاجوا ونحن نقول: لا.
لم يتحاجوا! مثل بعض الناس يقولون: إن الله عز وجل يقول: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} [الزمر:13] قالوا: لم يكن هناك أصحاب قرية، لكن الله ضرب مثلاً، وهكذا يقولون في أصحاب الكهف وغيرها من الوقائع، وهذا فيه إدخال للشك والريبة، نعوذ بالله من ذلك.
فالمحاجة وقعت على الصحيح في السماء؛ لكن الله أعلم في أي سماء وقعت، وقلنا في السماء؛ لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في السماوات، ومر عليه الصلاة والسلام عليهم جميعاً وكلم بعضهم، وأكثر من تكلم معه موسى، ولذلك ورد في حديث يقبل التصحيح: {أن موسى لما تجاوزه النبي صلى الله عليه وسلم بكى، فقالت له الملائكة: مالك تبكي؟ قال: نبي بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخل من أمتي!} قال ابن تيمية: هذا من المنافسة وليس من الحسد.
وموسى دائماً جريء في الحق، ولذلك من جرأته أن طلب من الله عز وجل وهو خائف على بساط القدس، وفي مقام التزكية فيقول: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143] سبحان الله! مطلب عظيم، فيقول الله عز وجل: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] وقد كان أول مرة لما سمع الصوت ولىّ هارباً وترك عصاه وحذاءه، ولكن لما آنسه الله تدرج في الخطاب حتى قرب، وبعدها يقول: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143].
ومن جرأته أنه أتى بالألواح فلما أتى إلى بني اسرائيل وقد عبدوا العجل ألقى الألواح من يده، فلذلك يقول ابن تيمية: إن الله عز وجل غفر له وعفا عنه بأمور لوكانت من غيره لكانت كبيرة، مثل إلقاء الألواح وفيها كلام الله عز وجل، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} [الأعراف:154] أتى مغضباً وأتى إلى أخيه وهو نبي من الأنبياء فأخذ بلحيته يجرجره أمام بني إسرائيل {قَالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي} [طه:94] يقول ابن القيم في مدارج السالكين:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع
يقول: أتى موسى عليه السلام بذنب لكن محاسن موسى وهي آلاف المحاسن شفعته، لكن المنافقين إذا أتى أحدهم بكلمة لعنه الله وأخزاه، فمثلاً أحدهم يقول للناس: إن هذا لا يقصد بصدقته إلا الرياء والسمعة، فينزل الرد مباشرة، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:79] وأحدهم يقول: يا رسول الله! ائذن لي ولا تفتني فإني إذا رأيت نساء الروم فتتنت، فيرد الله عليه: {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة:49] لا يعفو ولا يسامحه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لأنه خبيث.
أما الصادق فإن الله يعفو عنه، ولذلك كان في عمر شبه بموسى عليه السلام؛ في الحديبية يعترض على الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقول: [[يا رسول الله! كيف تقبل الدنية في ديننا؟ كيف نصالحهم ونحن أهل الحق وأهل السيف والقتال وكفار قريش على الضلال والباطل هذه قسمة ضيزى]] أو كما قال، وأبو بكر ما تكلم، فالرسول عفا عنه وسكت، ويأتي صلى الله عليه وسلم ليصلي بالناس على عبد الله بن أبي في صلاة الجنازة فيقفز عمر ويأخذ برداء المصطفى سيد البشرية، وخيرة الإنسانية، ومزعزع كيان الوثنية، يقول: يا رسول الله تصلي على ابن أبي، أما علمت أنه فعل كذا وكذا، أما علمت ماذا فعل يوم كذا وكذا؟ والرسول عليه الصلاة والسلام يعلم هذا، بل يرى.
وتأتي سودة، فيقول: قد عرفناك يا سودة، يقول عمر: أي: استتري حتى لا تعفرين، فيتدخل حتى في نساء الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: {أما أنت يا أبا بكر! ففيك شبه بإبراهيم وعيسى عليهما السلام، وأنت يا عمر! ففيك شبه بنوح وموسى عليهما السلام} فأشبه الناس بموسى عمر، وأشبه الناس بإبراهيم أبو بكر عليهما السلام ورضي الله عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
إذاً وقعت المحاجة في السماء، وبدأ الحوار بين الابن وأباه، بدأ بالحوار: موسى عليه السلام.