يختار الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لكل حقبة من حقب التاريخ والزمن نبياً يناسب تلك الحقبة، فكل أمة تبرع في فن من الفنون يأتي الله عز وجل بنبي يبرع في هذا الفن.
الأمة العربية أجادت في الفصاحة، فأتى الله تعالى بأفصح من نطق الضاد وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وأمة عيسى عليه السلام أجادوا في الطب، وفي المداواة والمعالجة، فأتى الله بعيسى وجعل معجزته الطب، وإحياء الموتى، وإبراء الأكمه بإذن الله، ومداواة المرضى، وموسى عليه الصلاة والسلام برع قومه في السحر والمناظرة، فأتى به وجعل عصاه تلقف ما يأفكون، فكان انتصاره من هذا الباب.
موسى عليه الصلاة السلام، له دلائل في القرآن أولها الشجاعة، فإنه كان قوي الجسم والإرادة، من قوة جسمه أن أهل التفسير والسير والتاريخ ذكروا أنه لطم فرعون طاغية الدنيا وهو طفل صغير، لطم فرعون الذي يقول: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51] يأتي عند سريره فيقوم على فرعون فيضرب وجهه بكفه، وهذه شجاعة.
الأمر الثاني: يرد ماء مدين فيأخذ الصخرة التي لا يحملها إلا النفر من الناس.
الثالثة: أنه ينازل في الميدان بعصاه، ويقاتل السحرة وكانوا ثلاثين ألفاً.
الرابعة: يعبر البحر بالجيش ويقاتل فيما بعد حيث يقول له بني إسرائيل: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24].
ومن ميزه عليه السلام: الحياء، فكان حيياً كما قال عليه الصلاة والسلام، ولذلك فمنشأ الأمانة الحياء، تقول ابنة الرجل الصالح، قيل: إنه شعيب وقيل غيره: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص:26] قوي يصلح للاستئجار، ومع القوة أمانة فليس كل قوي أمين، وليس كل أمين قوي، لكن من جمعهما فهو الفاضل، ولذلك فإن ابن تيمية له لطائف في هذا الباب، يقول: لما تولى أبو بكر وكان رجلاً ليناً صلح معه خالد لأنه كان قوياً، ولما تولى عمر كان قوياً فلم يصلح في قيادته خالد، وإنما صلح أبو عبيدة لأنه كان ليناً.
فالقيادة العسكرية كانت لـ خالد في عهد أبي بكر، ولذلك أبو بكر ما كان يسمع في خالد شيئاً، يقوم على المنبر وعمر يقول: اعزل خالداً، اعزل خالداً، فيقول: والله لا أغمد سيفاً سله رسول الله أو سله الله على المشركين؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {خالد سيف من سيوف الله سله على المشركين}.
ما نازل الفرس إلا خاب نازلهم ولا رمى الروم إلا طاش راميها
قد كنت أعدا أعاديها فصرت لها بفضل ربك حصناً من أعاديها
ولما تولى عمر كان أول مرسوم أصدره عزل خالد، فصلح معه أبو عبيدة رضي الله عنه وأرضاه، فذاك أمين لين، وأبو بكر أمين لين، وعمر قوي أمين، وخالد قوي أمين، فسبحان من مازج بين الأجناس والأشخاص والهيئات! وموسى جمع الأمانة والقوة، يذكر المفسرون أن ابنة شعيب لما أتت كانت تمشي على استحياء، حيث أتت إلى رجل غريب، وقد تولى إلى شجرة، سقى لهما ثم لم يتكلم معهما كثيراً، وهي مع أنها تكلمت أكثر منه في القرآن قالت: {لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23] لكن بإيجاز ما قالت: لا نسقي إلا بعد صلاة الظهر إذا ذهب الناس بمواشيهم، لأن طول الكلام معناه شيء من الريبة، وما قالت: أبونا رجل صالح جالس في البيت أرسلني وأختي لكي نسقي الغنم، لكن قالت: وأبونا شيخ كبير، أما هو فسكت وما تكلم، فمال إلى الشجرة، فلما أتت تمشي على استحياء {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:25].
فأتى معها، فلما مشى قال أهل العلم: كان يمشي أمامها، وهي تمشي وراءه، وهو يقول: دُليني على الطريق، فتقول: يميناً ويساراً حتى وصل إلى أبيها، لهذا كان عليه الصلاة والسلام قوياً أميناً.
والمسألة الثانية: أن صراعه كان صراع مناظرة ومقاتلة، فهو تصارع مع فرعون بالحجة، فعندما دخل على بساط فرعون بادره فرعون بالكلام، والأصل أن يتكلم موسى لأن الوافد هو الذي يتكلم، لكن الخائن الخبيث المجرم بدأ بالكلام، وهذا من قلة الأدب، حتى يقول الحسن البصري: ما أطيش وما أخف عقل فرعون! الواجب أن يتأكد ويتأنى إذ وفد عليه وفد، والأصل أن الأبيات إذا دخل دارك تنظر ماذا يتكلم؟ لكن فرعون قفز من سريره، وقال: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طه:49] لكن موسى عليه السلام أدبه الله بأمور وسوف نعرض إليها سريعاً، وقصة العصا معروفة، وكذلك قصة الإرسال معروفة، لكن لما وصل على البساط هو وهارون، وقد كان طلب أن يأتي معه هارون؛ لأنه أفصح منه، كما قال: {رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} [القصص:34].
وموسى عليه السلام متخوف من أمور:
منها: أنه سيذهب إلى طاغية، ومنها: أنه قتل نفساً منهم، ومنها أن الرجل ليس بفصيح، حيث أن موسى لم يكن خطيباً مفوهاً، ولم يكن محاضراً من الدرجة الأولى، وإنما يقول: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه:27 - 28] يقول: يا رب! احلل عقدة من لساني عله أن يفقه شيئاً مما أقوله، لكن مع ذلك بعد أن أحل الله العقدة، لازالت اللكنة في اللسان، فذهب معه هارون وقد قال بعض المؤرخين: إنه أكبر من موسى بسنة، لكن الله فضل الله هذا على هذا، فمشيا فلما رأى القصر ورأى أبهة السلطان والصولجان والهيلمان والقوة، التجأ موسى إلى الله وقال: {رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه:45] كأنه يعلم الله بفرعون، والله يعلم فهو الذي خلقه، لكن الخوف، قال: {لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] أنا معكما رقيب، لا يتحرك حركة إلا وأنا وراءه فتكلما معه ولا تخافا، لكن مع ذلك لا يأخذكم الغرور والعجب، إذ علمتم أني وراءكم، وذلك كما لو قلت لابنك ولله المثل الأعلى: اذهب وأنا معك، فلا يذهب هذا الولد يطرق باب الجيران أو يضارب أبناء الناس ويقول: أبي فلان بن فلان! ولله المثل الأعلى، فذهبا فقال الله لهما حتى لا يغترا: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44].
لكن الرجل كان طاغية، أغلق الله قلبه، وطبع على فؤاده، ومن يدري لعل الله أن يهديه، ويشرح صدره، ومن قال لك: إن الناس قد ختم الله على قلوبهم، ولذلك من الأخطاء أن يتحدث الداعية إلى بعض المذنبين أو المجرمين ويقول: هذا لا يهديه الله ولو هدى الناس جميعاً، نعوذ بالله ومن جعل الهداية لناس دون ناس! ومن أخبرك بسابق علم الله في الناس! بل بعض الناس كان مهتدياً ثم ضل، وبعضهم كان ضالاً ثم اهتدى {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} [طه:44] قيل لـ ابن عباس: ما هو القول اللين؟ قال: يمنياه بالشباب: قال: أي قولا: سوف يرد الله عليك شبابك، ويبقي عليك ملكك وثروتك وعزك وسلطانك {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] فلما دخلا البساط، بدأ المجرم يتكلم {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طه:49] يسأل عن الربوبية، لا يسأل الخبيث عن الألوهية، هو ينكر بالظاهر، ولكن في الباطن يعلم أن الله هو الخالق سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ولكنه يضحك على الناس، الذين يصفقون له: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51] ثم يقول حجة أخرى ساخرة: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} [الزخرف:52] يقول: أنا أفضل وأسرتي وموكبي أم موسى هذا الذي هو راعي غنم؟ {الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52] أي لا يفصح، فليس له لسان ولا كلام فصيح، وأنا فصيح وخطيب، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} [الزخرف:54] أي: حتى قومه كانوا فاسقين، فقد كان فيهم خفة وطيش وعدم تعقل، ويتبعون الهوى، فأيدوه، فلما دخل سأل عن الربوبية، وإلا فقد رد عليه في آية أخرى قال: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} [الإسراء:102] أي: مقطوع الحجة.
فبدأ فقال: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طه:49] فكيف يكون الرد؟ الرد في غير القرآن، أن يقول له: ربنا الله، لكن هو ينكر الله {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] إن كنت أنت أعطيت كل شيء خلقه ثم هديت فأنت رب، وأما هاتان الصفتان فلا تنطبقان إلا على الواحد الأحد سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فلما حاص وانقطعت حجته سأله مسألة أخرى، ومواقف موسى كثيرة في القرآن سوف أتعرض لبعضها إن شاء الله.