إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
معنا في هذا الدرس مناظرة بين الوالد والولد، بين الأب والابن، بين آدم وموسى عليهما الصلاة والسلام، وقد التقيا فحصل بينهما مناظرة ومحاجة، نقلها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم إلينا، ففي صحيح البخاري وصحيح مسلم وموطأ الإمام مالك وسنن أبي داود والترمذي عنه صلى الله عليه وسلم بألفاظ متباينة متعددة، مفادها: قال عليه الصلاة والسلام: {تحاج آدم وموسى، فقال موسى عليه السلام: أنت آدم أبونا، وخلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسكنك جنته، خيبتنا وأخرجتنا من الجنة -هذا كلام موسى عليه السلام - فقال آدم عليه السلام: أنت موسى بن عمران نبي بني اسرائيل، كتب الله لك التوراة بيده، واصطفاك وكلمك وقربك نبياً، أتلومني على أمر قد كتبه الله عليَّ قبل أن يخلقني بأربعين عاماً؟ قال عليه الصلاة والسلام: فحج آدم موسى، فحج آدم موسى، فحج آدم موسى} هذه في رواية، وفي ألفاظ مختلفة أن آدم عليه السلام تكلم مع موسى ومدحه بمدح أكثر، وأن موسى مدح آدم بمدح أكثر، وهذه هي قصة الحديث.
وفي هذا الحديث مسائل سوف نعرج عليها بإذن الله، ولكن قبل ذلك نقول: ما هو بسط هذه القصة؟
الرسول عليه الصلاة والسلام يخبرنا بهذا الحديث الذي هو أصل في باب القضاء والقدر، يقول: التقى آدم أبو البشر مع موسى عليه السلام وموسى رجل جريء، كان شجاعاً مقداماً، لا يكل ولا يمل، كل سؤال في رأسه لابد أن يعرضه ويناقشه على بساط البحث، فما هاب من أبيه ووالده، بل جلس معه، ولكن انظر كيف تلطف معه بالخطاب، فهو لم يقل لماذا أخرجتنا؟ أو لماذا خيبتنا؟ أو لماذا طردتنا؟ ولكن بدأ معه بالمدح والثناء، فقال: أنت آدم أبو البشر خلقك الله بيده -هذا مدح- ونفخ فيك من روحه- وهذا مدح- وأسكنك جنته- وهذا مدح- فلماذا أخرجتنا من الجنة؟ هذا عتاب، فرد كذلك آدم عليه السلام بعبارة طيبة للابن وكأنه يستهديه يقول: أنت من؟ قال: أنا موسى، قال: نبي بني إسرائيل، قال: نعم.
لم يقل لماذا تلومني؟ وإنما قال: أنت موسى الذي كلمك الله عز وجل، وقربك نبياً، وكتب لك التوراة بيده، بكم وجدت الله كتب عليَّ قبل أن يخلقني؟ قال: بأربعين عاماً، قال: فلماذا تلومني على أمر قد كتبه الله عليّ قبل أن يخلقني بأربعين عاماً؟ فسكت موسى وانقطع، قال: عليه الصلاة والسلام فحج آدم موسى، أي غلبه.
وفي هذا الحديث سبع عشرة مسألة، أولها: أين وقعت هذه المحاجة (المناظرة) وما هو مكانها وزمانها، وعلى بساط من؟ وعلى إشراف من وقعت هذه المحاضرة وكيف التقيا؟ فذاك أبو البشر من أول البشرية، وهذا في منتصف عقد التاريخ، موسى عليه السلام من أبناء أبناء الأبناء فكيف التقيا؟ وذاك قد مات منذ آلاف السنين، وهذا شب وترعرع في بني إسرائيل، فأين كان اللقاء وما هو الظرف الذي عاش فيه؟ وكيف وقعت هذه المناظرة؟ هذه مسألة.
المسألة الثانية: لماذا خص موسى بالمحاجة من بين الأنبياء؟ لماذا لم يتبرع رسول الهدى بهذه المناظرة، أو عيسى أو إبراهيم عليهم الصلاة والسلام جميعاً، وإنما انتدب لها موسى من بين الأنبياء؟ هذه مسألة.
الثالثة: كيف الجمع بين قول آدم عليه السلام لموسى: كتبها الله عليً قبل أن يخلقني بأربعين.
وفي صحيح مسلم أن عليه الصلاة والسلام يقول: {كتب الله مقادير كل شيء قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة} وهنا يقول: أربعين عاماً، وبين خمسين ألف سنة وبين أربعين عاماً فرق لا يخفى، فكيف الجمع؟
المسألة الرابعة: ما هي هذه المصيبة التي شكى منها موسى عليه السلام، هل موسى يلوم آدم عليه السلام على الإخراج من الجنة، أم يلومه على الأكل من الشجرة، أم يلومه على الكسب (أنه فعل ذنباً) أو يلومه على القضاء والقدر أم ماذا؟.
الخامسة: قوله صلى الله عليه وسلم: {فحج آدم موسى} هل هي بالرفع آدمُ، أو آدمَ بالنصب؛ لأن السجزي الحافظ المحدث كان يقول: {فحج آدمَ موسى} وكان هذا الراوي مع أنه من المحدثين الكبار، لكن كان فيه قدر، فيستدل بهذا الحديث أنه لا قدر، وأن الحق مع موسى عليه السلام وهم يجعلون موسى في هذا الحديث قدرياً ويجعلون آدم عليه السلام جبرياً، فالمعتزلة يستدلون بموسى والجبرية يستدلون بآدم عليه السلام.
المسألة السادسة: في الحديث رد على القدرية وليس فيه دليل للجبرية، وسوف يأتي مذهب القدرية والجبرية ومذهب أهل السنة والجماعة في كتاب القضاء والقدر.
المسألة السابعة: القدر يحتج به في المصائب، ولا يحتج به في المعايب، هذه قاعدة أتى بها شيخ الإسلام رحمه الله.
المسألة الثامنة: هل للمذنب أن يحتج بالقدر، كمن زنا أو سرق أو شرب الخمر؟ هل له أن يقول: كيف تلومني على شيء قد كتبه الله علي قبل أن يخلق السموات والأرض، فإذا قلنا له: أتحتج بالقضاء والقدر؟ قال: نعم، آدم احتج عند موسى بالقضاء والقدر؟ هذه مسألة.
المسالة التاسعة: غلبة آدم لموسى؛ لماذا غلب آدم موسى؟ ما هي الأمور والحجج والبراهين التي جعلت آدم يغلب موسى عليهما الصلاة والسلام.
العاشرة: ردت القدرية هذا الحديث وأبطلته بردين وسوف أذكرهما.
الحادية عشر: آدم عليه السلام معذور بأمرين وسوف أذكرهما إن شاء الله.
الثانية عشر: الأدب في الحوار.
الثالثة عشر: الجنة التي أخرج منها آدم هل هي جنة الخلد أو جنة غير جنة الخلد؟
الرابعة عشر: يقول آدم لموسى: (أعطاك كل شيء) عموم يراد به الخصوص، وهذا سوف يأتي.
الخامسة عشر: مناظرة العالم لمن هو أعلم منه، والابن يناظر أباه.
السادسة عشر: إثبات القدر وخلق أفعال العباد وللبخاري كتاب يسمى خلق أفعال العباد أو أفعال العباد.
السابعة عشر: سيرة موسى في القرآن ومناظرته مع الطغاة والمجرمين في الدنيا.
هذه مسائل هذا الحديث لكن قبل أن نبدأ بالعنصر الأول بهذا نأخذ العنصر الأخير وهو: سيرة موسى عليه الصلاة والسلام.