مصيبة ابن بقية

ابن بقية وزير من الوزراء العباسين، كان ينادي مناديه من على قصره في الصباح: من أراد الفطور المبارك فليتفضل؟ فيدخل الناس زرافات ووحداناً، الفقراء والأغنياء والكبار والصغار فيطعمهم، فإذا أتى بعد الظهر نادى مناديه من على القصر من أراد الغداء المبارك فهلم، فيدخلون، وهكذا العشاء، فلما تولى عضد الدولة ملك العراق البويهي حسده وانتقم منه، وقال: هذا أصغر مني شأناً وعليه الناس زرافات ووحداناً، لأبطشن به، وبالفعل بطش به، ماذا فعل به؟

قتله شر قتله، جوعه ثلاثة أيام، ثم أتى بالفيل وأغضبه، يقول: ضرب رأس الفيل حتى سال دم خرطوم الفيل في الأرض، وإذا سال دم الفيل حطم الدنيا، يصبح بلا عقل ويرفع عنه القلم، فأتى بهذا الفيل فأدخل الرجل وابن بقية الوزير رحمه الله من الصالحين، لكن يقولون: كان فيه تجبر في بعض المواقف، فأدخله وجوعه ثم أدخله شبك الحديد وخرج عضد الدولة يتفرج في المصارعة، وأدخل الفيل ودمه يسيل في الأرض، فما أن رأى الفيل ابن بقية حتى هجم عليه وبطحه في الأرض ثم ضربه بخفافه وخرطومه حتى قطعه، وبقي من صدره وما فوق، فأخذه عضد الدولة ونصبه عند مدخل بغداد، يقول: تفرجوا في مضيفكم هذا الذي يطعمكم عند باب الطاق عند النهر، فيخرج الناس في الصباح فينظرون، ويأتون في المساء ينظرون إليه ويبكون، فأتى أبو الحسن الأنباري يمدحه في قصيدة رائعة يلقيها وهو مصلوب نصف الجثمان فقط على العود:

علو في الحياة وفي الممات بحق أنت إحدى المعجزات

هذه من أجمل القصائد! يقول: حتى في الموت علو، ما دفنوك مثل الناس، لا تحب إلا العلو في الحياة وفي الممات.

علو في الحياة وفي الممات بحق أنت إحدى المعجزات

كأن الناس حولك حين قاموا وفود نداك أيام الصلات

يقول: الآن الناس وهم يبكون حول جثمانك وأنت على الخشبة، كأنهم يزدحمون على قصرك وأنت تضيفهم وتعطيهم الأموال:

كأن الناس حولك حين قاموا وفود نداك أيام الصلات

مددت يديك نحوهم احتفاء كمدهما إليهم بالهبات

كأنك تعطيهم

ولما ضاق بطن الأرض عن أن يواروا فيه تلك المكرمات

أصاروا الجو قبرك واستعاضوا عن الأكفان ثوب السافيات

عليك نفائح الرحمن تترى برحمات غوادٍ رائحات

وهي من أعجب ما قيل في هذا الوزير الذي يستحق ذلك! وقد أحسن أبو الحسن الأنباري في هذه القصيدة التائية -على كل حال- هذه عاقبة الدنيا وكل شيء يأتيه قاصمة إلا الدين، فإن الخاتمة والعاقبة للمتقين ولو أصابهم ما أصابهم من النكبات، لكنها تصفي لهم بإذن الله الخاتمة الحسنة ولا يضيعهم الله عز وجل فإن الله لا يضيع أولياءه.

أبو الطيب الطبري عالم شافعي كان فُكاهياً دعوباً، ذهب إلى الخراز -خراز الأحذية- قال: أصلح لي حذائي، وذهب ثم مضى عليه اليوم الثاني قال: أين الحذاء؟

قال: إن شاء الله غداً، فأتى بالغد وقال: أين الحذاء؟

وكلما رآه الخراز جعلها في الماء حتى يتظاهر أنه يريد إصلاحها، فأتى بعد غد قال: أين الحذاء؟

قال: أرشها وأصلحها إن شاء الله، قال: أعطيتك لتصلحها لا لتعلمها السباحة، لأنها دائماً في البرميل، هذا أبو الطيب الطبري.

أبو الطيب الطبري قفز من السفينة إلى الشاطئ خطوات، فأتى الشباب يقفزون فما استطاعوا قالوا: مالك استطعت وما استطعنا؟

قال: هذه أعضاء حفظناها في الصغر فحفظها الله علينا في الكبر: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64] {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].

طور بواسطة نورين ميديا © 2015