ومرة من المرات يأتي حطاب إسرائيلي يعمل عند مصري، فيأتي المصري على كبره وعنجهيته وتغطرسه؛ لأن فرعون وراءه وجدات فرعون وخالاته، فيضرب هذا الإسرائليلي، فيستدعي الإسرائيلي موسى لينقذه ويستصرخه ليغيثه، فيتدخل موسى، وموسى كان قوياً، وأبشركم ببشرى سارة لأهل الجنوب وهي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {كأنه رجل من أزد شنوءة} وأهل شنوءة هم أهل جبال السروات، فهو أحمر ربعة كما عرض للرسول صلى الله عليه وسلم، وفيه قوة عظيمة، لكن قوة الجسم لا يغتر بها الناس ما لم توفق قوة القلب، ويقول صلى الله عليه وسلم في رواية أخرى: {أريته كـ عروة بن مسعود الثقفي} فيتدخل موسى، فيضربه ضربةً قوية فيصرعه، فإذا هو في الأرض جثة هامدة، ويفر، ولما علم فرعون بذلك اجتمع بوزرائه وقرر قتل موسى عليه السلام، ويأتي الرجل الصالح إلى موسى ويقول: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} [القصص:20] إنهم قد دبروا لك الدسائس والحيل ليغتالوك {فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص:20] الفرار الفرار والنجاة النجاة! وأترك قصة الرجل الثاني لأنها لا تهمنا، لكن موسى عليه السلام بعد أن قتل هذا وأحس بالذنب {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ} [القصص:16] قال المفسرون: هنا بلاغة عجيبة، ولطيفة حبيبة إلى النفوس، وهي أن الله ما فصل بين الذنب والمغفرة، فما أن قال موسى: رب اغفرلي، حتى قال الله: فغفر له مباشرة؛ لما توسخ بالخطيئة، وأصبح في طينة من خبال الرذيلة اتجه إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فنظفه: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] قال: (فَغَفَرَ لَهُ) بدون شروط، ولم يأمره بأن يقدم شيئاً من العبادات، بل غفر له، وهذا من الجزالة والعفو والكرم والعطاء الجزيل الذي لا يدركه أحد.
ولكن إلى أين يتجه؟! المدينة قد أوصدت أبوابها، والحرس وقفوا على الطرق يبحثون عن الناس ويأخذون هوياتهم لعلهم يرون صورة موسى التي أعلنت استخبارات فرعون عن قبضه أم ماذا يفعل؟ لكن خرج في وقت قيلولة على غفلة من الناس، وإذا أردت أن تخرج من المدينة ولا يدركك المرور ولا يحبسون سيارتك فاخرج وقت الظهيرة، فإنهم يقيلون في ذاك الوقت، فخرج عليه السلام في تلك الساعة المباركة الميمونة، ثم يسأل الله أن يهديه إلى مكان آمن لأنه لا يعرف الطريق فقد عاش في المدينة، وأبناء المدينة لا يعرفون الفيافي ولا البوادي ولا الصحاري، عاش في المدينة لا يعرف الطرق ولا يعرف الناس لكن حتى في الطريق يسأل الله الهداية منه عز وجل، يقول: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص:22] سواء السبيل يعني: الطريق، فوجهه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وهداه في الصحراء لا مرشد ولا هادي، إنما يمشي وكأن رجلاً يستدعيه، كأنه يقول: هلمَّ إليَّ؛ لأن الله يحفظه ويحرسه، ومشى يخترق هذه الرمال حتى وصل إلى أناس وإلى وادٍ عظيم الماء، وفيه أناس رعاع وفيه حركة وسكون وهو يريد الاستئناس بهم، والإنسان كما يقولون: مدني بالطبع، وزهاد الصوفية إنما خالفوا طبائعهم؛ لأن أمزجتهم قد وقع فيها شيء من الاضطراب، فتركوا الناس وخرجوا إلى الرهبانية التي ذمها صلى الله عليه وسلم.
أما هو فوفد فإذا الناس يسقون، وإذا بابنتين اثنتين تقفان وتذودان غنمهما عن الماء، تريدان أن يخف الزحام وأن ينتهي هذا الفئام من الناس حتى توردان غنمهما، وفي الأخير جاء عليه السلام بعد أن رأى موقف هاتين البنتين، فأخذ الغنم بقوته وشجاعته وزاحم الرجال ودفعهم -وهو من هو في قوته وصلابته- حتى اسقى تلك الأغنام وأعادها للبنتين، ولكن به من الجوع العظيم مالا يعلم به إلا الله، وبه من الغربة ما لا يدركها إلا الله، وبه حتى من المرض، أورد الإمام أحمد في كتاب الزهد: أن موسى عليه السلام قال لما رجع إلى الماء: يا رب! مريض غريب جائع فقير، قال الله عز وجل: يا موسى! الفقير من لم أكن أنا مغنيه، والمريض من لم أكن أنا طبيبه، والغريب من لم أكن أنا مؤنسه، والجوعان من لم أكن أنا مشبعه.
ولكن القرآن يأتي باختصار لأعظم قضية {ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24] وتتدخل عناية الله مرة ثانية، وتأتي إحدى البنتين فتخبر أباها بما حدث عند الماء وتعود أدراجها؛ لتطلب هذا الرجل العظيم لتوفيه حقه من أبيها، فسلمت عليه ويقول المفسرون: ما رد عليها، ويدرك من يقرأ القرآن لمحاً -تلميحاً لا تصريحاً- أن الرجل كان على عفة عظيمة، وهكذا فليكن أولياء الله؛ ما نظر إليها ولا فاتحها بل قيل: إنه جعلها وراءه لتدله على الطريق، ووصل إلى بغيته.
قواصد كافور توارك غيره ومن قصد البحر استقل السواقيا
ولما وصل إلى هذا الرجل الصالح سلم عليه، قيل: إنه شعيب، وقيل غيره، ولا يهمنا فإنما يهمنا هو القصة والرجل الصالح، فلما سلم عليه وقص عليه القصص، وأخبره بالأنباء المفجعة، والحوادث الرهيبة، والإرهاب الذي استعمله واستغله فرعون عليه لعنة الله: {قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:25] لقد استقر قلبك وارتاح ضميرك وأنت في ولاية الله ورعايته؛ لا تخف أبداً نجوت من القوم الظالمين، ثم بدأ بينهما معاهدة، وكتبت بينهما ورقة صك على أن يرعى لشعيب عليه السلام مدة من الوقت فإن شاء عشر سنوات وإن شاء ثمان سنوات: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ} [القصص:27] أي: زيادة تفضل وكرم وعفو {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القصص:27] وفعلاً وفىَّ موسى عليه السلام عشر سنوات، يقول ابن عباس: [[وفىَّ أبرهما وأكرمهما وأحسنهما أحسن العهدين]] ولما انتهت العشر السنوات أخذ زوجته وأخذ طفله وغنمه وشاته، وأعطاه الرجل الصالح عصا، والعصا هذه سوف تقلب الدنيا ظهراً لبطن، وسوف يكون لها حديث في القرآن وسوف يكون لها خبر مع فرعون، وتصارع الطغاة والسحرة، وتقف موقفاً وتتكلم بكلام، وتتحدث بحديث فاسمع، فخرج وساق أغنامه وقطع تلك الفيافي، وانظروا لعناية الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فإنه أعلم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى كيف يجعل رسالته.
يتوقف في ليلة من الليالي وقد أظلم عليه الليل لا يجد نوراً، ولا يجد شيئاً يستدفئ به أهله، فتلمع له نار في وادي طوى بجانب الطور، فيستأذن من أهله في رقة، ويقول: سوف آتيكم بقبس لعلكم تصطلون، أو بشهاب من النار، أو لعلي أجد على النار هدى، قيل: إنسان يهديني أو صبر يصبرني، أو شيء يصرف كربتنا في هذه الليلة، ولما قرب من النار، وكما يقولون من اللطائف: أنه كان عنده حذاءين من جلد حمار ميت -والله أعلم- إنما قال له سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: اخلع نعليك، المقام مقام قداسة، والمقام مقام عبادة، والمقام مقام إجلال وإكرام، فالنعلان لا تليقان أن تدخلا في هذا البساط القدسي، فخلعهما وتقدم، وبعد لحظة من اللحظات سمع كلاماً ما عهده، كلام الله عز وجل يكلم هذا العبد الذي وضعته أمه في الماء، هذا الذي لذعته النار، وهذا الذي رعى الأغنام، وهذا الذي أتى في الصحراء ضائعاً والهاً لا يحفظ شيئاً، وليس عنده مؤهلات لكن تدركه عناية الله عز وجل {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} [طه:14] ووقعت (لا إله إلا الله) في قلب موسى وتحركه وارتعدت جوارحه، واهتز كيانه، وتذكر من هو الله عز وجل {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} [طه:14] انظر إلى السماء! ترى إبداع الله عز وجل، وانظر إلى الأرض! تجد صنعه سبحانه، وانظر إلى كل شيء!
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
ثم يقول له: (وألق عصاك) فألقى العصا التي كان يرعى بها الغنم، فإذا هي حية تسعى، فتركها وولى مسرعاً هارباً لا يلوي على شيء، يا ألله! العصا التي كنت أذود بها الأغنام تتحول إلى ثعبان، ما هذه الاضطرابات، وهذا التموجات في هذه الليلة؟ ما هذه الأحداث الضخام في هذه الليلة؟ من أنا؟ أنا كنت راعياً أرعى الأغنام، ولكن يعود النداء من الله عز وجل: {أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} [النمل:10] فأقبل وقال له الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لما أوحى إليه أن ياخذ عصاه ليعيدها سيرتها الأولى، فأخذ عصاه، قيل: وضع يده في لسان الحية، فعادت عصا في يده كسيرتها الأولى أي: عصاه الأولى، ثم آية ثانية قال له سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} [النمل:12] فأدخلها ثم أخرجها فإذا هي بيضاء من غير سوء، ليس فيها برص ولا بهق، إنما هي بيضاء تلمع كالبدر آية ثانية.
ثم قال له سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:24] وتوقف هل هذا صحيح؟ كنت أرعى الضأن، وكنت أبحث عن سراج في هذه الظلمة، ثم الآن أذهب إلى فرعون، ومن يدخلني على فرعون؟! ومن يتركني أتجاوز إلى قصره، وأدخل إلى بساطه، ثم أدخل إلى ديوانه وأتكلم معه وأنا طريد؟ قتلت رجلاً منهم ولو أمسك بي جواسيسه لقطعوني إرباً إرباً؟! لكن الله يقول له: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:24] أي: تجاوز الحد وبطر، وأنت رجل الموقف، وأنت رجل الساعة، فما كان رده إلا أن قال: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه:25] وكأن إنساناً ضربه، يتصور أن إنساناً ضربه في صدره كذا أو أخبره بخبر مفجع أو أنه ألقيت عليه قذيفة، فقال: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} [طه:25 - 26] ووالله إنه لأمر صعب، وإنها لمسئولية ضخمة: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} [طه:25 - 27] وتأتي قصة اللسان، وكان موسى ألثغاً لا يجيد ولا يبين حتى يقول فرعون: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52] لا يفصح ولا ينطق الحروف من مخارجها، لكن قالوا: إن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يعطي الأنبياء والمرسلين بقدر ما يسألونه فقط، فأعطاه الله بياناً لكن ليس شافياً كبيان هارون الذي يختطب ويرج الموقف.
يقول: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه:27 - 28] يقول: لا أريد إلا أن يفقهوا قولي، ثم يقول: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} [طه:29 - 31] وهناك في آية أخرى يقول: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي} [القصص:34] يعني: هو أفصح مني لساناً، ولكن إذا أصبح في الحجة والبيان والتضحية وبسط المقالة تأثر الناس، وهكذا الناس، يقول صلى الله عليه وسلم: {إن أحدكم ربما يكون ألحن بحجته من الآخر، فأقضي له على نحو ما أسمع}.
فلذلك ربما تجد صاحب الحق لا يجيد أن يتكلم يقول: نعم هذه ناقتي ضاعت، ولكن لا أدري متى ضاعت؟ ولا في أي مكان ضاعت؟ ويأتي هذا السارق ويقول: بل هي ناقتي الحمراء الصفراء التي ربيتها في وادينا الفلاني، ومكثت عندي سنتين وأعرف رباطها وزمامها وعفاصها ووكاءها، قال القاضي: خذها، فهذا من البيان، فهارون كان عنده من هذا الشيء العظيم.