أراد صلى الله عليه وسلم أن يجهز جيشاً لـ مكة، وأخفى الأخبار حتى يبغتهم بغتة، يأتيهم بغتة وفجأة وهم لا يشعرون، فسد الأخبار وقال: {اللهم خذ بأسماع قريش وأبصارها} خذ بأسماع قريش، أي: اعم أبصارها وأسماعها، فلا تدري به صلى الله عليه وسلم، لئلا يتجهزون بجيش ويستعدون، ومباغتة العدو من أعظم الخطط العسكرية الرهيبة، كما ذكرها محمود شيت خطاب وغيره من الذين تكلموا في العسكرية الإسلامية.
قال: خذ بأسماعهم وأبصارهم، فأتى حاطب بن أبي بلتعة، وأتى بامرأة قيل امرأة استأجرها، فكتب لأهل مكة، وحاطب هذا من أهل بدر ومن أهل بيعة الرضوان من الصحابة، لكن يعثر العبد ويخطئ العبد؛ فهو ليس نبياً معصوماً، فكتب خطاباً سرياً خطيراً يكشف خطة الرسول عليه الصلاة والسلام، يريد هو رضي الله عنه أن يتخذ يداً عند كفار قريش يرضون عنه، فيتركون أبناءه وبناته وماله، ولا يؤذونه بشيء، فكتب: إن محمداً عليه الصلاة والسلام يريد قتالكم، فقد تجهز بجيش فاستعدوا، ثم أخذ الخطاب، فلفه ووضعه في جديلة وفي ظفائر وفي شعر المرأة، ولفها عليه، ثم غرزه وأخفاه، وقال: اذهبي انطلقي، فذهبت من المدينة حتى أصبحت في روضة خاخ، لكن أين يذهب الخبر، والذي على العرش استوى لا تخفى عليه خافية؟! فأنزل الله جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم قال: أدرك ظعينة حاطب بن أبي بلتعة؛ فإنها في روضة خاخ، ومعها كتاب لكفار قريش يخبرهم بك، قال: يا علي ويا زبير! انطلقا إلى روضة خاخ، فانطلقا بفرسين يتسابقان فطوقا روضة خاخ، وإذا بالظعينة بين الشجر، قالوا: أخرجي الكتاب، قالت: ما عندي كتاب، وحلفت لهم أيماناً لا تقبل ولا تهضم ولا تصدق، فقال علي بن أبي طالب: والذي نفسي بيده ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده لتخرجن الكتاب أو لأجردنك من الثياب، إما هذا وإما هذا، قالت: انتظروني قليلاً، فأخرجت الكتاب، فأخذا الكتاب واشتدا كالصقرين حتى عادا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكتاب، قال: عليّ بـ حاطب، وأتوا بـ حاطب من بيته، وعلم أن المسألة كشفت، فأجلسه صلى الله عليه وسلم للمحاكمة، وعمر بسيفه جاهز متخصص في قطع الرءوس على الطريقة الإسلامية.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حاطب! ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رسول الله! ليس لي أهل ولا عشيرة ولا قوم في مكة، ولي أبناء عندهم وبنات -أي: أن له شبهة لكنها لا تقبل- فأردت أن يكون لي يد، فسكت صلى الله عليه وسلم فقال عمر: يا رسول اللهّ! ائذن لي أن أضرب عنق هذا المنافق؛ فقد خان الله ورسوله، وسل السيف، قال: {يا عمر! دعه، يا عمر! لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم} فدمعت عينا عمر، أي أنه من كان من أهل بدر، لا يسبقه فضل، ولا ترقى إليه درجة ولا منزلة أبداً ولا رتبة، فكف عمر السيف، فأخبر الله رسوله بهذا الخبر وما حصل، ومثله كثير في السيرة.