نعمة اللباس واستحباب التزين

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: {يا عبادي! كلكم عارٍ إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم} أجمل لباس في الحياة لباس التقوى {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26].

إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى تقلب عرياناً وإن كان كاسيا

وأجمل حلية يتحلى بها المؤمن لباس التقوى، وفي الحديث إشارة إلى اللباس الظاهر المعروف عند الناس، وهي الثياب، فلا يكسو إلا الله، وهي تدخل في الرزق، لكن هذا من الخاص بعد العام، فإن الذي يرزق هو الله عز وجل، ومن الرزق الطعام والشراب واللباس وغيرها، وفي حديث حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يقول الله تبارك وتعالى يوم القيامة: يابن آدم! استطعمتك فلم تطعمني، قال: كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أن عبدي فلان بن فلان جاع فلم تطعمه؟! أما علمت أنك لو أطعمته وجدت ذلك عندي؟! يابن آدم! مرضت فلم تعدني، قال: كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أن عبدي فلان بن فلان مرض فلم تعده؟! أما علمت أنك لو عدته وجدت ذلك عندي؟!} ثم ذكر الحديث وهو حديث حسن ومن أهل العلم من صححه، وهذه الألفاظ تقال ولا تكيف، وهذا ليس مجال بسط.

ويخطئ كثير من الناس حين يظن أن اللباس كل شيء، وأن التجمل في الهيئة كل شيء، والجمال جمال الباطن، والحلية حلية الأدب، وأجمل حلية يكساها الإنسان جمال الاعتقاد وجمال الأخلاق والصفات والسلوك، ثم أمرنا بالجمال في الظاهر، إن ديننا لا يعترف بالدروشة، إن الإسلام لا يعترف بالإزراء، وفي حديث حسن {إن الله يحب من عبده إذا أنعم عليه نعمة أن يرى أثر نعمته عليه} وعند الترمذي بسند تكلم فيه: {إن الله نظيف يحب النظافة} لكن ورد في مسلم {إن الله جميل يحب الجمال} وهو من حديث ابن مسعود.

يقول الرجل: {يا رسول الله! إنني أحب أن يكون ثوبي جميلاً، ونعلي جميلاً، أمن الكبر ذلك؟ قال عليه الصلاة والسلام: لا.

الكبر بطر الحق وغمط الناس} وغمط الناس أي: ازدراؤهم واحتقارهم، ثم قال: {إن الله جميل يحب الجمال}.

وفي حديث حسن يقول عليه الصلاة والسلام: {فتزينوا حتى تكونوا كأنكم شامة في عيون الناس} وفي السير أن ابن عباس رضي الله عنهما لبس حلة بألف دينار، ثم أتى إلى الخوارج في العراق فلما رأوه قالوا: أأنت ابن عم رسول الله؟ قال: نعم وماذا تنكرون؟! وقد كان رسول الله يلبس أجمل الحلل، ولقد رأيته يلبس صلى الله عليه وسلم البردة الحبرة وهي ثياب تنسج في اليمن، وقال ابن القيم في صفة هديه صلى الله عليه وسلم: كان لا يتكلف في الطعام وفي اللباس مفقوداً ولا يرد موجوداً.

مرة يلبس من الغالي الحلال النفيس، ومرة يلبس من الرخيص، ومرة يلبس الدروع في المعركة.

البس لكل حالة لبوسها إما نعيمها وإما بوسها

يخرج مرة في جبة من شعر مُرَحَّل عليه الصلاة والسلام، ومرة في بردة كأنه النجم، أو كأن الثريا علقت بجبينه، فيتكلم على الحاضرين بجمال المظهر والمخبر إيحاءً ووقعاً في القلوب، ومرة يلبس الدرعين كما في أحد ويبارز فيهما، فهو رسول ميسر عليه الصلاة والسلام.

فالتقيد باللباس الغالي دائماً سيما المترفين، والتقيد بالرخيص سيما المرائين المتبذلين، والمتوسطون هم أهل الرسالة كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143].

وفي سنن ابن ماجة بسند يوقف معه ويبحث فيه {أن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن لباس الشهرة} لكن ابن القيم سكت عن هذا الحديث في باب اللباس، والحديث فيه ضعف، والشهرة هي أن يلبس لباساً غالياً يوصله بالجبابرة، أو رخيصاً يوصله بالناس الذين يزرون بأنفسهم، فكأنه إذا لبس الغالي يقول للناس: أنا ابن فلان وابن فلان.

أنا ابن جلا وطلاع الثنايا متى أضع العمامة تعرفوني

وإذا لبس المزري الرخيص كأنه يقول: أنا الزاهد العابد، أنا ثابت البناني، أنا قتادة بن دعامة السدوسي، وأنت لست بـ ثابت ولا قتادة، فأحسن ما يتستر به العبد الثياب الوسط، ليكون من عامة المسلمين؛ في لباس لا يكون محرماً ولا مزرياً ولا به ترف ولا فيه خشونة إلا لحاجة، ويسأل سائل منكم: ولماذا لبس عمر رضي الله عنه وأرضاه برداً ممزقاً فيه أربعة عشر رقعة؟ ونقول له: ومن نحن مع عمر؟!

لا تعرضن لذكرنا في ذكرهم ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد

رحم الله تلك العظام، عمر يتواضع في لباسه من مركز قوة، ذهب الدنيا تحت يديه، ذهب وفضة الدنيا تحت يديه.

يا من يرى عمراً تكسوه بردته والزيت أدم له والكوخ مأواه

يهتز كسرى على كرسيه فرقاً من خوفه وملوك الروم تخشاه

لكن العامي من الناس إذا تقمص هذه الشخصية كأنه يلفت الأنظار إلى زهده، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {ثلاثة لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: ملك كذاب، وعائل مستكبر، وأشيمط زانٍ} أشيمط زانٍ يعني: شيخ كبير قرب من القبر، وابيضت لحيته، ومع ذلك يزني، أعمى ويناقر.

وملك كذاب لأنه لا يحتاج إلى الكذب، ولا يضطره أحد إليه، فلماذا يكذب؟ وما هو الداعي للكذب؟

وعائل مستكبر: عائل ويتكبر، فقير لصق بالتراب ويتكبر على عباد الله! ولا يظن ظان أن التكبر معناه لبس الغالي! فإن من الناس من يلبس اللباس الرخيص، ولكن قلبه قلب جبار.

دخل فرقد السبخي على الحسن البصري وعليه ثياب ممزقة وعلى الحسن البصري برد جميل غالٍ من برود الحبور التي تأتي من اليمن، فقال فرقد السبخي للحسن البصري: أتلبس هذا الغالي؟! قال: أنا إن شاء الله في هذا البرد أتواضع لربي أحسن منك في هذه الثياب الخلقة.

ودخل فرقد على ابن سيرين، فرأى على فرقد ثياباًَ من صوف ممزقة فأشاح بوجهه وقال: لعلك تقرأ سيرة النصارى، والله لقد حدثني الثقات عن الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يلبس البرد الحبرة التي هي من أغلى البرود.

وفي صحيح البخاري في كتاب الأدب: باب التجمل للوفود، وباب اللباس يوم الجمعة أن عمر أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلة سيراء، والسيراء هي: الحلة المنمقة المصنوعة من الحرير، رآها تباع في السوق، وهي حلة لـ حاجب بن زرارة التميمي، فاشتراها للرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: يا رسول الله! هذه الحلة لتخطب بها يوم الجمعة، وتستقبل فيها الوفود؛ لأن المعروف عند الصحابة أنه يتجمل ليوم الجمعة وللوفود، فقال عليه الصلاة والسلام: {إن هذه لباس من لا خلاق له} والسبب: أنها من حرير، فأقره صلى الله عليه وسلم على الجمال والتجمل للجمعة والوفود، وأنكر عليه كونها حريراً، وهذا في باب اللباس.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015