الرازق هو الله

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: {يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم} الله خلقنا، وما كان في خلقه لنا نفعاً له سبحانه وتعالى، ولا دفعاً للمضرة عنه، فهو النافع الضار تبارك وتعالى، هو الذي يطعم ولا يطعم، قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الروم:40] هو الذي يخلق سبحانه وتعالى، ويحيي ويميت، وهذه هي علامات الربوبية، وفيها أقصى دلائل لتوحيد الألوهية، لأن بعض الناس يجعل توحيد الربوبية توحيد الألوهية، حتى يتفق هو وفرعون؛ لأن فرعون ما أنكر الصانع في نفسه، بل أنكره في الظاهر فقط، ولهذا قال له موسى: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} [الإسراء:102].

يقول موسى لفرعون: والله إنك تعلم أنه ما خلق الخلق إلا الله، وما رفع السماء ولا بسط الأرض إلا الله، لكنك مكابر، ويخطئ من يجعل توحيد الربوبية مكان توحيد الألوهية، ولذلك نقم ابن تيمية على من عرف توحيد الألوهية بتوحيد الربوبية.

أبو جهل يعرف أن الذي خلق الشجرة هو الله، والذي خلق السماء هو الله، والذي خلق الأرض هو الله، لكن يجعل مع الله إلهاً آخر، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزمر:38].

قال عليه الصلاة والسلام لـ حصين بن عبيد: كم تعبد؟ قال: أعبد سبعة، ستة في الأرض وواحد في السماء، قال صلى الله عليه وسلم: من لرغبك ولرهبك؟ قال: الذي في السماء، قال: فاترك الذي في الأرض واعبد الذي في السماء.

ثم يقول: {يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم} ولذلك يخطئ بعض الناس إذا ظن أن الناس هم الذين يرزقون وليس الله، قال تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ} [العنكبوت:17].

سئل ابن تيمية شيخ الإسلام في المجلد العاشر من فتاويه سأله أبو القاسم المغربي قال: دلني على أعظم وصية توصيني بها، وعلى أعظم كتاب بعد القرآن، وعلى أحسن عمل بعد الفرائض، وعلى باب للمهنة والرزق كي أمتهنه -والشاهد باب الرزق- قال ابن تيمية: أما الرزق فأعظم ما يحصِّل الرزق الثقة بالله والتوكل عليه، وطلب الرزق منه، فإنه لا يرزق إلا الله، ولا يعطي ولا يمنع إلا الله.

ولذلك دخل أحمد بن نصر الخزاعي على الواثق في فتنة القول بخلق القرآن، وأحمد بن نصر الخزاعي شيخ البخاري في كثير من الحديث، وله مخطوطة في علم الحديث اسمها الاعتصام بالكتاب والسنة، وقد قام بالتنظير العقلي لـ أهل السنة والجماعة، وبجمع الصف ليدكدك دولة الابتداع والباطل، فظفر به الواثق، فأدخله عليه وهو الشهيد العالم، فقال له الواثق: والله لأقطعن رزقك -يعني: راتبك- قال: والله ما رأسي إلا كهذه، ثم قطع زر ثوبه، وأسقطه على رأس الواثق، فقال الواثق: خذوه، فأخذوه فصرعوه وذبحوه؛ ولذلك رفعه الله عز وجل كما رفع الإمام أحمد.

وبعض الناس يتوهم أن باب الرزق قد يغلق عليه، ولم يعلم أن الرزق من عند الواحد الأحد، ولا يثبت إيماننا وتوحيدنا حتى نعتقد بهذه الأمور.

ذكر ابن رجب الحنبلي صاحب طبقات الحنابلة عن أبي الوفاء ابن عقيل الحنبلي، صاحب كتاب الفنون الذي هو ثمانمائة مجلد، وكتاب الفنون، كان يكتبه في وقت الفراغ لا في وقت الجد، إذا كان في وقت الفراغ، كتب خواطره وبنات أفكاره في هذا الكتاب، فخرجت ثمانمائة مجلد.

فذكر ابن رجب أن ابن عقيل ذهب إلى مكة، وكان من الصالحين الكبار الذين يعلمون أن الرزق من عند الله تبارك وتعالى، قال ابن عقيل: فانقطعت نفقتي وما وجدت شيئاً آكله قال: فطفت، فلما انتهيت من الطواف والسعي رجعت ألتمس أكلاً فما وجدت شيئاً، فذهبت إلى ضواحي مكة، فبينما أنا أبحث في التراب، إذا عقد من جوهر كل جوهرة تساوي مئات الألوف من الدنانير -عقد من جوهر- قال: فأخذته وفرحت به فذهبت، فلما أصبحت في الحرم، إذا منادٍ ينادي: من وجد العقد فليأت به، قال: الله المستعان! فذهب به، فقال لصاحبه: ما علامته؟ قال: كذا وكذا كما في الحديث {اعرف عفاصها ووكاءها، ثم عرفها سنة} قال: فوجد الوصف نفسه، فأخذ هذا العقد بجواهره، فو الله ما أعطاني منه درهماً، وبعض الناس لئيم.

قال: فذهب به فلما انتهيت من حجي ذهبت فركبت البحر، فانكسر بي القارب -بعض الابتلاءات تتوالى على المؤمن- قال: فركبت خشبة، فأخذت بي الريح تلعب بي يمنة ويسرة مدة، فازداد الجوع جوعاً والظمأ ظمأً والخوف خوفاً، لكن ذلك تمحيص.

قال: ثم ألقتني الخشبة إلى جزيرة من الجزر في البحر، فدخلت الجزيرة، فوجدت فيها قرية، فدخلت مسجد القرية، فتناولت مصحفاً، فأتى أهل القرية، فقالوا: أتقرأ؟ قلت: نعم، قالوا: علمنا القرآن ونعطيك أجراً، قلت: نعم.

أعلمكم القرآن، قال: فأخذت ورقة فكتبت، قالوا: وتكتب؟ قال: أكتب، قالوا: علم أبناءنا الكتابة بأجر، قلت: نعم.

أعلم أبناءكم الكتابة بأجر.

فلما مضى ردح من الزمن، قالوا: معنا ابنة يتيمة صالحة عابدة كان أبوها من الصالحين، نريد أن نزوجك إياها، فتزوجها، قال: فلما رأيتها رأيت العقد الذي وجدته في مكة في نحرها، قلت: ما هذا العقد؟

قالت: هذا عقد كان أبي اشتراه بماله كله، كل ما يملك في الحياة جعله في هذا العقد، قلت: ألهذا العقد قصة؟

قالت: قد ضاع مرة من المرات في مكة، فوجده رجل من الصالحين، فأعطاه أبي، فكان أبي بعد كل صلاة يقول: اللهم ارزق ابنتي رجلاً صالحاً كالذي رد عليّ العقد، قال: أنا صاحب العقد، وقد أجاب الله دعوة والدك.

وقف أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وأرضاه ببغلته عند باب المسجد في الكوفة فقال لأحد الناس: أتمسك لي البغلة -أحد الناس من الطفيليين الذين لا هم له إلا قطع الشوارع عرضاً وطولاً- قال: أمسك لك البغلة، فأخذ البغلة، وقام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يصلي ركعتين في المسجد، فأخذها فرصة سانحة، فأخذ خطام البغلة، سبحان الله! بعض الناس حقير النفس يرضى بالقليل، يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: {لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده} وما هي البيضة؟ قال الأعمش: هي الخوذة التي يضعها المقاتل على رأسه، لكن قال الخطابي وغيره: يبدأ بسرقة البيضة فيتدرج حتى يسرق شيئاً له ثمن، فتقطع يده، لأن القطع في ربع دينار أو ثلاثة دراهم.

فذهب الرجل إلى السوق فباعه بدرهم، فقال علي: الحقوا هذا الرجل تجدوه في السوق يبيع الخطام -لأنه معلوم عند العقلاء والأذكياء وأهل الفطن أن من يأخذ هذا يذهب إلى السوق- فلحقه رجل فوجده يبيع الخطام وقد باعه بدرهم، فاشتراه من ذاك بدرهم وأخذ الخطام، وقال: هذا خطام بغلة أمير المؤمنين، وأما أنت فخذ الدرهم حراماً، فرجع إلى علي فأعطاه فقال: بكم باعه؟ قال: باعه بدرهم، قال: سبحان الله! والله الذي لا إله إلا هو لقد أردت في نفسي أن أعطيه درهماً بدل إمساكه البغلة، لكن أبى بعض الناس إلا أن يأخذ رزقه من الحرام.

{كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم} في السنن قال عليه الصلاة والسلام: {اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع} وبعض الناس يتمنون الجوع.

والغزالي له عجائب في كتاب الإحياء في باب الجوع، وهو أمر لم تأت به السنة، وأحدثه أهل الصوفية الغلاة، يقول أحدهم: أين أنتم مني؟ ما أكلت الرطب أربعين سنة! ومن قال لك: لا تأكل الرطب والبلح، والله قد أباحه؟!

وقال الآخر: والله ما أكلت اللحم عشرين سنة! كيف تقول ذلك وقد أباحه الله سبحانه وتعالى لأوليائه؟! {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32].

فهؤلاء يتمنون الجوع ويعيشون على الجوع، قال الذهبي في ترجمة صوفي كبير قال عنه: إنه ترك الأكل ثلاثة أيام بلياليها قال: فرأيت أشباحاً -يظن أنها ملائكة، قال: فرأيت أشباحاً روحانية، قال الذهبي: والله ما رأيت شيئاً، ولكن عقلك خاش وطاش وفاش، تركت الأكل حتى وسوس ضميرك وجن عقلك، فقلت: إنهم ملائكة، لماذا ينزلون عليك؟ هل أنت خاتم الأنبياء والرسل؟ لا والله، لكن عقلك خاش وطاش وفاش، ولذلك دخل الكثير في الابتداع من مذهب الزهد، فتجد الواحد لا يأكل ولا يشرب، ولا يستطيع أن يصلي واقفاً.

قال ابن الجوزي في تلبيس إبليس: رأيت بعضهم يصلي جالساً، فقلت: مالك لا تصلي الفريضة واقفاً؟ قال: تنفلت واقفاً حتى تعبت، فصليت الفريضة جالساً، أي فقه هذا الفقه؟!

وذكر الخطابي -وأعيدكم إلى هذه المسألة لأن فيها غرابة- في كتاب العزلة وبإمكانكم مراجعة ذلك، قال: رأينا بعض الناس من غلاة الصوفية ألصق على إحدى عينيه شيئاً، فقيل له: مالك؟ فقال: إسراف أن أنظر إلى الدنيا بعينين!

سبحان الله! الله خلق لك عينين، وأنت تجعل من الإسراف أن تنظر بعينين، وقد قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:8 - 10] فكيف تجعل هذا إسرافاً؟! إنه الجهل والتقليد والخرافة والتبعية.

وإن الرسالة إذا لم تبن على العلم والفقه والإسلام والإيمان والطموح والعدل، فإنها لا تكون نافعة لأصحابها.

ومن باب الفائدة أقول: ويجدر بنا أن نشير إلى أنواع الوحي: وهي القرآن والحديث القدسي والحديث النبوي.

القرآن: لفظه ومعناه من الله تبارك وتعالى وهو متواتر لفظاً ومعنى، معجز، متعبد بتلاوته.

والحديث القدسي: معناه من الله عز وجل، ولفظه من الرسول صلى الله عليه وسلم، فيه متواتر وعزيز وغريب، ولا يتعبد بتلاوته، وليس معجزاً.

والحديث النبوي من الرسول عليه الصلاة والسلام لفظه ومعناه، فيه متواتر وعزيز وغريب ولا يتعبد بتلاوته وليس بمعجز، فهذه أقسام الوحي التي أتى بها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015