{يا عبادي! إنكم تذنبون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم} من حلف أنه لم يذنب في حياته فقد أخطأ، ومن ادعى العصمة فقد زل وضل؛ لأن العصمة لأنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام، أما نحن فأبونا آدم أذنب وأخطأ، وخرج من الجنة، لكن عيب عليك أن تقلده في الخطيئة، ولا تقلده في التوبة، وقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] وقال عز وجل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
ويقول عليه الصلاة والسلام في باب التوبة في الترمذي: {كلكم خطاء وخير الخطائين التوابون} وفي مسلم: {والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، وأتى بقوم آخرين يذنبون، فيستغفرون الله، فيغفر لهم}.
والذنب كالحتم على العبد، قال ابن تيمية في الرقاق وفي القاعدة العراقية المجلد العاشر: الذنب كالحتم على العبد، مكتوب عليه، لكن على العبد إذا ابتلي بالذنب يتبعه بالمكفرات، والمكفرات عشر ذكرها ابن تيمية في كتاب رفع الملام عن الأئمة الأعلام، من فاتته العشر فقد شرد على الله شرد الجمل الهارب على أهله.
أولها: الأعمال الصالحة: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] قال ابن مسعود: {نظر رجل من الأنصار امرأة لا تحل له، فأتى الرسول عليه الصلاة والسلام فأخبره بذلك، فأنزل الله عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] فقال: ألي خاصة؟ قال: لا.
بل لك ولكل من عمل بعملك إلى يوم القيامة} والحديث صحيح.
ثانيها: المصائب المكفرة: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} [النساء:123].
وفي مسند الإمام أحمد بسند صحيح: {أن الله عز وجل لما أنزل قوله سبحانه وتعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] بكى أبو بكر وقال: يا رسول الله! كيف العمل بعد هذه الآية؟ قال: غفر الله لك، ألست تهتم؟ ألست تحزن؟ أليست تصيبك اللأواء؟ قال: بلى.
قال: فلا يصيب المؤمن من هم ولا وصب ولا نصب ولا مرض حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه}.
وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود قال: {دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوعك وعكاً شديداً فقلت: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي} ما ألطف الكلمة! معلم البشرية هادي الإنسان.
فدىً لك من يقصِّر عن مداكا فما ملك إذاً إلا فداكا
أروح وقد ختمت على فؤادي بحبك أن يحل به سواكا
إذا اشتبهت دموعٌ في خدودٍ تبين من بكى ممن تباكى
قال: {بأبي أنت وأمي يا رسول الله! إنك توعك وعكاً شديداً، قال: أجل إنني أوعك كما يوعك رجلان منكم، قلت: ذلك لأن لك الأجر مرتين؟ قال: نعم} ثم أورد رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: {ما من مسلم يصيبه مرض أو همٌ أو غمٌ أو حزن حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من سيئاته} وهذا معلوم.
الأمر الثالث: دعوات المؤمنين الصالحة بظهر الغيب، والدعوة بظهر الغيب مطلوبة، وقد ورد في الحديث عن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: {لا تنسنا يا أخي من دعائك} ولو كان فيه كلام، فبعض أهل العلم حسنه، وبعضهم ضعفه، لكن صح في مسند أحمد من حديث أبي الدرداء: {خير الدعاء -أو أفضل الدعاء أو الدعوة المستجابة- دعوة مسلم غائب لغائب} وصح من حديث أم الدرداء، وكذلك من حديث خالد بن معدان وغيره.
ومن المكفرات: صلاة المسلمين على الجنازة، وذلك إذا أخلصوا لله، وكانوا على التوحيد، وجاء في الحديث أنهم إذا كانوا أربعين لا يشركون بالله أو مائة، يشفعون له.
ومنها: عرق الجبين عند سكرات الموت وفي الترمذي: {المؤمن يموت بعرق الجبين} قالوا: تشتد عليه السكرات حتى يعرق جبينه.
ومنها: ظلمة القبر ووحشة القبر أعاننا الله على ذاك المصرع!
والقبر روضة من الجنان أو حفرة من حفر النيرانِ
إن يك خيراً فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده
وإن يكن شراً فما بعد أشد ويل لعبد عن سبيل الله صد
فهو كفارة عند أهل السنة والجماعة، وعذاب القبر حقيقة في القرآن والسنة، ومن أدلته قوله سبحانه وتعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} [غافر:46] أي: آل فرعون تعرض لهم النار في قبورهم، وقوله سبحانه وتعالى: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100] إلى غير ذلك من الآيات.
وفي السنة ما ثبت في حديث البراء وغيره.
ومن المصائب: هول العرض على الله سبحانه وتعالى، يوم يبعثر ما في القبور، ويحصل ما في الصدور.
ومن الكفارات: شفاعة سيد الخلق عليه الصلاة والسلام، ففي حديث حسن: {شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي} نسأل الله ألا يحرمنا شفاعته!
والعاشرة: رحمة أرحم الراحمين، يوم تنتهي المكفرات ولا تبقى إلا رحمة الله وعطاؤه وفضله وجوده وكرمه.
إن الملوك إذا شابت عبيدهم في رقهم عتقوهم عتق أبرار
وأنت يا خالقي أولى بذا كرماً قد شبت في الرق فاعتقنا من النار
فلا إله إلا الله! قال ابن تيمية: من فاتته هذه العشر المكفرات فقد هلك هلاكاً بيناً، وشرد على الله كما يشرد الجمل على أهله.
فيا عباد الله! هذه بعض الفوائد من هذا الحديث فإنه طويل، يحتاج إلى جلسات، وفيه قضايا كبرى، وهو من الأربعين النووية، قال الإمام أحمد: ما أعلم لأهل الشام حديثاً أشرف من هذا الحديث، فهو حديث شريف مؤثر، يتضمن قضية كبرى، وحبذا أن يتدارس في الجلسات وفي الفصول والاجتماعات، وحبذا أن نستشعر معانيه وأن نعيش في ظلاله وفي سجاياه، حبذا أن تتفهم جمله، لأنه قواعد كلية في الإسلام.
ثم إنني أسأل الله كما جمعنا في هذا المكان أن يجمعنا في مستقر رحمته، وأن يهدينا وإياكم سواء السبيل.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.